قبل أيام، تكرّر جدل عقيم تغذّيه الطبقة الإعلاميّة والسياسيّة الفرنسيّة، بعد ظهور مريم بوجتو في التلفزة، وهي طالبة محجّبة تترأس «الاتحاد الوطنيّ لطلبة فرنسا» في جامعة السوربون. يعكس هذا الجدل مناخ الإسلاموفوبيا الخانق والسائد في فرنسا منذ سنوات عدة، إذ يُطلق كلّ ظهور لشابّة مُحجّبة هيستيريا جماعيّة وسيلاً من ردود الفعل الإسلاموفوبيّة المُتخفيّة وراء خطاب أسطوريّ حول الهويّة الفرنسيّة وعلمانية مخترعة يرتبطان زيفاً باحترام حقوق الإنسان، كما يوضح في مرات عدة خبراء حول المسألة. في هذ المقابلة، يُحلّل الأستاذ الباحث أندري غنتر، الذي يشغل كرسيّ «التاريخ البصريّ» في «مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعيّة»، الجذور العميقة للإسلاموفوبيا في فرنسا وشرعنتها في المجال الإعلاميّ والسياسيّ.
في كلّ ظهور مُتلفز لامرأة ترتدي حجاباً، يُطلق المدافعون المزيّفون عن العلمانية ضجة إعلاميّة لمحاصرتها. لماذا يتمّ اعتبار تدخّل المسلمين «البارزين» للتعبير عن أنفسهم، غير شرعيّ؟
هذا شكل جديد من التمييز، حيث يتمّ إطلاق مضايقة جماعيّة عن طريق الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعيّ ومبعوثين من الدولة، وذلك لإزاحة فاعلين معيّنين، يمثّلون الشعوب التي كانت مُستعمرة، عن فضاء التمثيل. شملت هذه الظاهرة في المرحلة الأخيرة المطربة منال، الفكاهيّ ياسين بلعطار، المناضلة رقيّة ديالو، والطالبة مريم بوجتو.
وفقاً للمبدأ الاستعماريّ، لا يمكن التسامح مع العنصر الدخيل


إضافة إلى التعرّض للتمييز في التشغيل والسكن، يُشتبه أيضاً في دعم الجاليات العربيّة المسلمة لأنشطة ضدّ فرنسا، ويُطلب منها إدانتها باستمرار. مع ذلك، تحضر هذه الجاليات في الواقع الفرنسيّ، وتعلن عن نفسها من خلال البروز المتزايد لشخصيّات نخبويّة مثقّفة لا تتشارك نفس المكانة مع الطبقات المحرومة، فيما يتكرّس الاقصاء الرمزيّ ضدّ هؤلاء الفاعلين. وكما تظهر نضالات جميع الأقليّات، معركة الظهور مهمّة، ولأنّ الفضاء العام يُطبّع المختلف ويجعل الغريب عاديّاً بصورة تدريجية، فإنّ المحافظين يستبعدون من يمكن أن يبرزوا كأبطال جدد في أعين المجموعات التي تعاني من التميّيز.
وفقاً للمبدأ الاستعماريّ، لا يمكن التسامح مع العنصر الدخيل إلاّ بشرط كتم ما يجعله فريداً، أي بإذابته في المحيط. في هذا الإطار، يُعتبر من غير المحتمل بروز شخص يدّعي حمل اختلاف مُفترض مع الثقافة المرجعيّة، مثل الحجاب الذي يُحيي في المجتمع الفرنسيّ نزعات عنصريّة لا واعية.

يضفي الصراع من أجل «العلمانية» أكثر فأكثر شرعيّة على العنصريّة والإسلاموفوبيا التي يحملها خصوصاً نوّاب فرنسيّون ووجوه من «الربيع الجمهوريّ». كيف تحلّل هذا التجذّر في المواقف والتعبير على العنصريّة من دون خجل عند النخب المثقّفة والإعلاميّة؟
الوضع معقّد، فمنذ ثلاثة عقود ينشر المحافظون الجدد، المناصرون لـ«صراع الحضارات»، طرحاً قويّاً يُعرّف الفضاء العام بوصفه علمانياً. وتفتقد هذه الأطروحة أيّ معنى، سواء من وجهة نظر التقليد الديموقراطيّ الذي يضمن المساواة بين جميع الآراء والمعتقدات، وأيضاً من وجهة نظر العلمانية التي تفرض الحياد العقائديّ على ممثلي الدولة فقط وليس على الفضاء العام الذي يُعدُّ فضاءً مشتركاً يُعبّر فيه كلّ شخص عن معتقداته بحريّة.

تفرض العلمانية الحياد العقائديّ على ممثلي الدولة وليس على الفضاء العام (عن الويب)

إلاّ أنّ ذلك الطرح ساعد على جمع مجموعات اليمين الإسلاموفوبيّة القديمة باليساريّين المدافعين عن العلمانية، متخفين وراء منطق يدّعي مهاجمة جميع الأديان من دون تميّيز. وقد يجمع أيضاً النسويّات اللواتي يستخدمن تأويلاً أحاديّاً يعتبر الحجاب أداة قمع أبويّ.
سمح هذا التجمّع بالتصويت على قانون منع ارتداء الحجاب في المدارس العمومية في عام 2004، وقانون منع إخفاء الوجه في الفضاء العام في 2010. مع ذلك، يبدو أنّ قصيّة «البوركيني» التي أطلقها نيكولا ساركوزي خلال الحملة الرئاسية في 2016، قد وضعت حدّاً لهذا المسار بإظهارها الأسس الأيديولوجيّة والمعادية للأجانب لهذه الحجة القائمة على العلمانية. وفي حال بقي موقف الإسلاموفوبيّين راجحاً، فإنه لن يبقى منيعاً، حيث ستتكاثر أصوات ناقدة لهنّات منطق أظهر حدوده.

نعم، لكن الرأي العام نفسه مُتأثر بهذا الخطاب، إذ يظهر الناس المُستجوبون في الشارع حول المسائل المرتبطة بتمثيل الإسلام والحجاب تصوّراً مُشوَّهاً للعلمانية، ويحمل لوثة الإسلاموفوبيا. ويذكّر مختصون في العلمانية، على غرار جان بوبيرو، أنّ ذلك مرتبط بـ«نظرة مُنمّطة للواقع الاجتماعيّ» يُقدّمها الإعلام من دون إحالة على أيّ دراسة اجتماعيّة جديّة. أليست تلك علامة على وجود إسلاموفوبيا ممأسسة في فرنسا؟
تُحيي الإسلاموفوبيا الفرنسيّة رواسب استعماريّة لا واعية، غائبة عن التعليم المدرسيّ وعن الوعي الإعلاميّ. هذا الغياب هو ما يسمح بإعادة إنتاج الأنماط النموذجيّة للاستعمار، مثل نقد الحجاب باسم النسويّة، أو التعارض بين التقاليد والحداثة، ما يُبرّر قبول وجود مواطن من الدرجة الثانية، له حقوق أقلّ وواجبات أكثر من الآخرين. لكن فرض هذا النموذج الذي يتعارض بشدّة مع مبادئ الديموقراطيّة الأكثر أساسيّة، يواجه الآن من الأقليّات التي لا تستلم وتُسمع صوتها.

على رغم الحملات الإعلاميّة العنيفة ضدّ المسلمين، ومن تطبيق علمانية تكيل بمكيالين، لا يُسمع صوت الاحتجاج على النظام العنصريّ، إذ يبدو كما لو يوجد إنكار شديد للحقيقة في ما يتعلّق بالإسلاموفوبيا. لماذا يوجد رفض لتسمية الأشياء بمسمياتها، وما الذي يمنع اليوم فتح نقاش حول هذه المسائل؟
وجود مضايقات تهدف لإقصاء أشخاص من المجال العام يُظهر في حدّ ذاته تقدّم بروز الأقليّات، وإن كانت الأخيرة ما زالت تعاني لإسماع صوتها. أظنّ أنّ الأمر مرتبط بمسار متعنّت لا يُمكن القوى المحافظة أن تخفيه للأبد، كما أنّ تخفيف الخطر الإرهابيّ يدفع باتجاه تطبيع الحضور الإسلاميّ في فرنسا. ما زلنا بعيدين عن هذا الأفق، لكن يبدو بالنسبة لي أنّ الطرح العلماني بصدد التراجع، وأنّ التميّيز في إبراز الناس يبدو معركة رجعيّة.