آلان جوكس، أو طراوة النظرة الصائبة التي لم تنل منها قساوة سِنِيه التسعين. العالم لدى أعلى المراجع الاستراتيجيين الفرنسيين، فضاء تحكمه قوانين الغابة. فعندما كان المفكرون ينقسمون يساراً ويميناً، بين محتفٍ بالعولمة السعيدة ومستسلم لتيارها الجارف، آلان جوكس، رئيس «مركز دراسات السلام والاستراتيجيا» مفكرٌ امتهن السباحة ضد التيار، راصداً معالم البربرية القادمة، ومفتاحها، التوحش النيوليبرالي. فمن التسعينيات حتى العقد الثاني لهذا القرن، كرّس جوكس ثلاثة كتب، «أميركا المرتزقة» و«إمبراطورية الفوضى» و«حروب الإمبراطورية العالمية»، ليقول فيها كلمته في العولمة، وأن شرط استكمالها المزيد من الدماء والحروب وعسكرة العلاقات الدولية، ورأى أن العولمة في قبضة «البنتاغون» الخفية تتضمن انتفاء السياسة وتحولها إلى استمرارية للحرب، بوسائل أخرى.آخر تقارير مؤسسة «أوكسفام» غير الحكومية، قالت إن واحداً في المئة من سكان هذا العالم، استحوذوا على 82 في المئة مما تم إنتاجه العام الماضي. يطرح الرقم على آلان جوكس، سؤالاً عن الوصول إلى ما وصل إليه العالم، وكيف أصبح العالم على ما هو عليه، مع الفوارق الهائلة في المداخيل، واستيلاء أقلية ضئيلة جداً على الثروات والموارد.
«أعتقد أنها المرة الأولى التي يمكن القول فيها إننا أمام بورجوازية متحررة من أي مسؤولية سياسية أو ترابية على إدارة مصالح شعوبها بفضل الثورة الإلكترونية. هذه الثورة تسمح بالتفكير والقيادة في نظام منفلت من الضوابط والقيود، ويعمل كما نظام التقلبات المناخية، حيث إن التدخّل يكون ممكناً حصراً من أجل تحقيق الأرباح وليس لفرض الاستقرار الضروري لحسن سير عملية الإنتاج. يفضي ذلك إلى واقع هجين غير مسبوق من المستحيل الإحاطة به. فلبّ المشكلة هو أنه نظامٌ لا مركز يدار منه. لا الأمم المتحدة ولا البنك الدولي يديرانه».
لكن في المقابل، يصعب القول إنه ليس هناك فاعلون يقودونه؟
«صحيح، إنهم مجموعة من رجال الأعمال وأصحاب المليارات الذين يلتقون بقادة سياسيين في دافوس، وهم بورجوازية دافوس، جاؤوا لاستشارتهم. إنهم قادة سياسيون يقومون بدور الشرطة التي تحرس مصالح هؤلاء. المسألة المطروحة أمامنا بسيطة جداً، وفي غاية التعقيد في آن واحد. نحن لم نعتد النظر في المسائل التي يتماهى فيها السياسي بالاقتصادي، والمالي والعسكري في وقت واحد، لأنها تشكل موضوعات متباينة، لم تنضج حتى الآن النظريات الضرورية لشرحها في مظهرها الجديد. وبسبب هذا القصور في فهم الظاهرة الجديدة، لا نزال نسمي هذا الكائن الإمبريالية».
إن الإمبريالية، كما عهدناها، هي نسق لمراكمة المال من خلال الاستعمار أو وسائل أخرى، ليس بينها كما اليوم تدمير الدولة الإمبريالية نفسها. إن هذه الإمبريالية المستحدثة تقوم بتدمير الهويات الوطنية، والدول الوطنية التقليدية.
«نحن اليوم أمام النسخة الأحدث للإمبريالية غير الممركزة، أو متعددة المراكز، متعددة تتحمل السلطة السياسية أحياناً، أو لا تبغي أن تتحملها. إن هذه الإمبريالية ليس لها من أيديولوجية سوى الدعوة إلى تحرير الأسواق من تحكم البنى الفوقية الضخمة، أي الأمم. إن هذه الدعوة تنشر المزيد من الفوضى. كما أن الرعب الذي يجتاح العالم اليوم ليس ثمرة استراتيجية مركز ما، أو تحقيقاً لغاية واضحة، أو انعكاساً لنظرية الأواني المستطرقة التي تنفجر في النهاية. إنها إشكالية لم تجد لها حتى الآن نظرية تشرحها، وتستحق باسم ذلك أن تسمى المسألة التي لا تعريف لها حتى اليوم. بيد أن الناس فهموا تماماً أن المصارف هي التي تهيمن على العالم، وأن الغاية الأسمى للمصارف هي المزيد، والمزيد من مراكمة الأموال».
لكن العولمة أفضت إلى التقدم التكنولوجي النوعي والتحولات الجيواستراتيجية، وإلى عودة التنافس بين القوى العظمى، ما أحيا المخاوف من صدام كبير بينها.
«إنها رغبة الولايات المتحدة الدفينة في أن تحظى إلى ما لا نهاية بعدو جدير بها. فمن غير عدو جليّ ومميز وقوي، لا يمكن تبرير هيمنة أميركا على العالم كأمة إمبريالية، وخصوصاً إذا كان هذا العدو مهزوماً مسبقاً في أي صدام معها. يحق لنا التساؤل عما إذا كانت القوى النووية العظمى ستستسلم مجدداً أمام إغراء التهديد بالحرب النووية. أظن أن التلويح بالضربة النووية فكرة خرقاء حازت إعجاب بعض الرؤساء وأدمنوها، وما عاد بوسعهم الاستغناء عنها، لأنها تمنح من يستخدمها عرشاً راسخاً، في مفارقة تخشى الشعوب فيها الحرب النووية، لكنها ترى، في آن واحد، أن التهديد بالنووي هو أيضاً وسيلتها لإبعاد السعير النووي عنها. كان ذلك صحيحاً أثناءَ الحرب الباردة، لكن هذا النموذج انتهى. إن الردع النووي الحقيقي كان متبادلاً بين دولتين، لكن هذا النظام اختفى في وقتنا الحاضر».
إن انحسار دور الدولة وتفكك المجتمعات وانتشار العنف، ينذر بالكوارث، فإلى أين نتجه؟
«تماماً، وأكثر من ذلك أن موجات الهجرة التي تبعث بها أقواس المجازر في العالم، تصيب بالاهتراء، مع تعاظمها، قانون إغاثة الغرقى، ولا سيما في موطنها الأصلي بين الجزر اليونانية، حيث سادت قاعدة إلزامية للبشرية في البحار منذ الأزل. كانت الجزر اليونانية والإيطالية تهب الملجأ لكل غرقى البحار، لكن هذا الناموس الأزلي للتعاضد بين البشر يتهاوى الآن بذريعة تكاثف موجات المهاجرين. من المشروع أن نتساءل اليوم عن كوننا عشية حرب عالمية».
بوسعنا أن نزعم أيضاً أننا في خضم هذه الحرب التي تتخذ شكلاً مغايراً للحرب العالمية الثانية. تلك الحرب التي انطوت على إرادة عميقة للدول التي خاضتها للهيمنة على العالم وهي ظاهرة تقادم عليها الزمن.
«إن ما يبدو بربرياً اليوم، فلأنه غير مسبوق ولا شبيه له في أي حقبة من التاريخ البشري، وهو فوضى لا أكثر، وغير معطوف على أي ظاهرة سابقة تفسره. ينبغي أن نعرف أن ما يجعل وجود هذه الفوضى ممكناً، وإدارتها في متناول الأيدي هي الثورة الإلكترونية، التي دفعت قدماً كل القطاعات الإنتاجية بما فيها الروبوت. فالعمال ليسوا عمالاً من الآن فصاعداً، ومن الممكن استبدالهم بالروبوت متى شئنا، كما أن السلع التي يلقى بها إلى الأسواق، ليست غايتها تلبية الحاجات الأساسية للناس وإطعامهم، وإنما تحقيق المزيد من الأرباح. هناك الكثير مما يدفعنا إلى القول إننا في خضم حرب عالمية لا يعاني فيها الجميع بالطريقة نفسها. هي حرب عالمية تخلّصنا منها عندما دفعنا برحاها لكي تدور بعيداً في فضاءات تتكثف فيها إشكاليات جيواستراتيجية وجيواقتصادية، يحولها إلى ساحات نزاع كالشرق الأوسط وجنوب الصحراء في أفريقيا. نحن نحيا في لحظة تسود فيها اللامبالاة عالماً لا تؤرقه الحروب، ولا يرغب في إيقافها، لأن الانتصار لم يعد الهدف منها».
نحن نعلم جيداً أن هدف كل حرب هو الانتصار، واستتباب السلم، حتى لو لم يكن ذلك هدفاً بعينه للتوقف عن اللجوء الى السلاح في السياسة، هل هذا يعني أننا لم نعد نعرف ما هي الحرب؟
«لم تعد الحرب ما كانت عليه في الماضي، فلا منتصر بعد اليوم، لأن لا أحد يريد ذلك الانتصار. الولايات المتحدة هي النموذج الأبرز والأكثر تقدماً في النظام العالمي العابر للدول. إن هدف الولايات المتحدة من حروبها لم يعد الانتصار على العدو، وإنما تصفيته وإعدامه نهائياً، لأنها لا تريد التفاوض مع العدو. إذ لا مكان لأي تفاوض معه، لأنه مصنف كوغد ومارق أو كشرير وإرهابي ومتطرف دينياً».