تصدّى رئيس الحكومة التركية، رجب طيب أردوغان، للاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزة، كلامياً. وتصدى أيضاً كلامياً، لمواجهة نقل السفارة الأميركية للقدس المحتلة، مع حرص شديد على تظهير التصريحات الشاجبة لإسرائيل في هذه الأيام، بمناسبة وغير مناسبة، إلى الحد الذي كاد فيه أن يزاحم في الكلمات والمواقف، دولاً ومنظمات تعمل على مساندة ودعم القضية الفلسطينية قولاً وعملاً، فيما الواقع القائم لعلاقة تركيا وإسرائيل في ازدهار وتطور، لم يسبق له مثيل.طلب وزارة الخارجية التركية من القنصل العام الإسرائيلي في اسطنبول العودة لإسرائيل «لبعض الوقت»، إشارة واضحة على «نزاع موقت» ما بين الجانبين، تفرضه ظروف أردوغان الانتخابية، ومحاولة منه لاستغلال المأساة الفلسطينية في الداخل التركي، على أن ينتهي كل ذلك لاحقاً وتعود الأمور إلى مجراها الطبيعي بين الجانبين. و«لبعض الوقت»، إشارة واضحة إلى هذه النتيجة، وتأكيد عليها.
وللأسف، هناك من يصدق، أو يغش نفسه من خلال إجبارها على التصديق، أن المواقف التركية تعبّر عن مسار جديد. لدى البعض أعذاره التي يمكن تفهمها في زمن بات الموقف الكلامي ضد إسرائيل من دون أفعال، بل كلام يناقض الأفعال، مطلوب وإن كان لا يجدي في زمن باتت الدول العربية تعلن تباعاً وبلا إخفاء، حلفها مع إسرائيل وضربها للقضية الفلسطينية عرض الحائط.
بناء على ذلك، أي على واقع الكلام التركي المجرد من الأفعال، بل الأفعال النقيضة لمضمون ما يصدر من مواقف، من المفيد للقارئ الاطلاع على بينات ومعطيات، من شأنها أن تكشف الموقف التركي الحقيقي من التصريحات المضادة لإسرائيل، فيما العلاقة معها في ازدهار وتطور غير مسبوقين. معطيات هي عينات دالة على مدى اتساع العلاقة بين الجانبين، وتستأهل بحثاً أكثر عمقاً.
على رغم التهديدات والمواقف «العدائية»، إلا أن النشاط الاقتصادي البيني ما زال واسعاً وفي ازدهار لافت، إذ بلغ حجم الشراكة التجارية بين الجانبين 4.3 مليار دولار عام 2017. وهو استمرار لواقع توسع العلاقات الاقتصادية في العامين الماضيين، منذ توقيع اتفاقية المصالحة عام 2016. تضمنت هذه الاتفاقية، التي وقعت بعد سنوات عدة من «القطيعة» الدبلوماسية، عدداً من البنود الاقتصادية التي رعت ودفعت مستوى التجارة بينهما، ومن أهم هذه البنود، الاتفاق على تصدير المواد الكيميائية والمشتقات النفطية من إسرائيل إلى تركيا.
زاد حجم التجارة بين الجانبين 11 في المئة في العام 2017 مقارنة بالعام السابق


وإن كانت العلاقات التركية- الإسرائيلية تميزت في الماضي في كونها علاقات أمنية في شكل رئيسي، إضافة إلى التجارة والسياحة وقطاع النقل، إلا أنها في أعقاب اعتداء إسرائيل على «قافلة الحرية» (سفينة مرمرة) عام 2010، التي كانت حادثة «رأس الجليد» التي دفعت أخيراً إلى «تحويل» في شكل ومضمون العلاقات بين الجانبين، وابتعادها عن التعاون الأمني مع الإبقاء على النواحي الأخرى كما هي بلا تغييرات تذكر. أحداث مرمرة والأزمة في أعقابها، لم تؤد إلى انفصال اقتصادي بل إلى مواصلة تحفيز المصالح الاقتصادية وإن بموازاة تردٍّ سياسي.
الواضح، مع كل «هبّة غضب» تركية تجاه إسرائيل، التي يعقبها لاحقاً «مصالحة»، لم تدفع أنقرة إلى ترد مواز في المصالح والعلاقات الاقتصادية، ومن المشكوك فيه إن كان الرئيس رجب طيب اردوغان، معني أيضاً هذه المرة في الإضرار بهذا القطاع وسحب التردي السياسي إليه، حيث في كل مرة يعمل جاهداً «مهما كان غاضباً»، كي لا يؤدي التدهور الى صراع على مستوى العلاقات الاقتصادية بين الجانبين.
تشير آخر المعطيات الصادرة عن «مركز إسرائيل للتصدير» (مركز رسمي)، إلى أن حجم التجارة بين إسرائيل وتركيا باستثناء الماس وصلت إلى ما يقرب من 4.3 مليار دولار عام 2017، بزيادة قدرها حوالى 11 في المئة مقارنة مع عام 2016، حيث بلغت في حينه 3.9 مليار دولار. الزيادة في التجارة البينية نتيجة لزيادة الواردات وزيادة الصادرات. ارتفعت صادرات إسرائيل من السلع إلى تركيا بنسبة 10 في المئة عام 2017 لتصل إلى 1.4 مليار دولار. وارتفعت الواردات من السلع بنسبة 11 في المئة وبلغت 2.9 مليار دولار - وهو أعلى مستوى مسجل في الواردات من تركيا.
حلّ في المرتبة الأولى لاستيراد إسرائيل من تركيا المواد الأولية للمعادن المستخدمة في الصناعات (19 في المئة من مجمل الواردات)، وحلت السيارات والطائرات والقطع البحرية ثانياً بـ18 في المئة، وثالثاً الآلات والمعدات الكهربائية (14 في المئة)، يليها المنسوجات (9 في المئة)، ومن ثم البلاستيك والمطاط (8 في المئة)، والمنتوجات الزراعية (8 في المئة).
الصادرات الإسرائيلية إلى تركيا هي بمعظمها، أي ما يصل إلى أكثر من 75 في المئة، مواد كيميائية ومشتقات وتكرير نفطي، باعتبار تركيا هي محطة عبور للأسواق الأوروبية (ترانزيت)، فيما بقية الصادرات تتعلق بمنتجات معدنية ومحركات ومعدات كهربائية ومنتجات ورقية للطباعة.
في السنوات الأخيرة، كان هناك بعض الحرارة في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، من دون أن تكون هذه النتيجة مرتبطة باتفاق المصالح لعام 2016، بل بعوامل وظروف أخرى، منها الحرب في سوريا ومقصد تركيا كجهة سياحة وترانزيت سياحة للإسرائيلي. بحسب معطيات صحيفة «ذا ماركر» الاقتصادية العبرية، أقلعت من إسرائيل إلى تركيا عام 2012، 4.706 رحلات جوية نقلت ما يزيد على 686.000 إسرائيلي، الأمر الذي شهد زيادة مضطردة عام 2017، وصل إلى 12.4 ألف رحلة جوية، وبما يقرب من 2 مليون سائح إسرائيلي.
على رغم أن إسرائيل ليست وجهة هامة للسياح الأتراك إلا أنها تعمل كجسر للنشاط التجاري التركي باتجاه الدول العربية، الذي بدأ كنتيجة للحرب في سوريا. تطلبت الحرب من المصنعين الأتراك، الذين قاموا بتسويق المنتجات الزراعية التركية إلى الأردن ومنه إلى دول الخليج، أن يجدوا طريقاً يتجاوز سوريا. تم العثور على الطريق من قبل السفن التركية، التي باتت تجلب الشاحنات مع سائقيها الأتراك باتجاه ميناء حيفا، ومنه عبر الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى الأردن. ويشمل هذا النشاط ما بين 30 إلى 40 شاحنة في الأسبوع الواحد. العلاقات الاقتصادية الإسرائيلية التركية في ازدهار مستمر في موازاة ترد في علاقات الطرفين السياسية والتصريحات «الرنانة» المتبادلة. هذا الواقع، دفع وزير الاقتصاد الإسرائيلي، ايلي كوهين، ليهدد أردوغان وتركيا بضرورة الامتناع عن ازدواجية التعاطي مع إسرائيل، بين الموقف العملي والموقف الكلامي: «مع احترامي الكبير لأردوغان، لكن لا يمكنه أن يتمتع بأفضل ما في العالمين في علاقته مع إسرائيل»، في إشارة منه إلى الازدواجية، والتناقض بين كلام تركيا وأفعالها.