مساء يوم الثلاثاء، أعلن دونالد ترامب إذاً خروج واشنطن من الاتفاق حول النوويّ الإيرانيّ، الموقّع في 15 تموز 2015، ويشمل أيضاً فرنسا، بريطانيا، روسيا، الصين، وألمانيا، من دون أن يمثّل ذلك مفاجأة لأحد. سمح الاتفاق برفع جزئيّ للعقوبات الاقتصاديّة ضدّ إيران، مقابل تجميد برنامجها النوويّ ووضعه تحت مراقبة دوليّة لمدة عشرة أعوام على الأقلّ. ويجب على الكونغرس دعم قرار ترامب ومطابقة الحظر مع التشريع الأميركيّ في أجل يمتد بين ثلاثة وستّة أشهر.لكن، لا يمكن منذ هذه اللحظة توقيع عقود جديدة تجمع الشركات الأميركيّة (والغربيّة المرتبطة بها) مع إيران، أما العقود القائمة، فسوف تشملها العقوبات خلال فترة انتقاليّة بين 90 و180 يوماً، وبعبارة أخرى، تملك جميع الشركات الأجنبيّة بين ثلاثة وستّة أشهر لـ«مغادرة» إيران، أما المجموعات التي هي بصدد التفاوض حول عقود مستقبليّة، فيجب عليها العدول عن ذلك فوراً. على سبيل المثال، أعلن السفير الأميركيّ في برلين أنّه على الشركات الألمانيّة إيقاف أنشطتها في إيران «فوراً»، وستتعرض الشركات التي لا تحترم الشروط المفروضة من واشنطن لإجراءات مضادة وإلى المنع من النفاذ للسوق الأميركيّة.
هذا التجلّي الجديد للأحاديّة القطبيّة الأميركيّة يخلّ، منذ الآن، بعدد من الاتفاقات الموقعة بين إيران والكثير من الشركات الفرنسيّة الصغيرة والمتوسّطة منذ نهاية 2015. فضلاً عن ذلك، يهدد هذا الانقلاب عدّة مشاريع مهمّة منتظرة في إيران تتولاها مجموعات فرنسيّة، بدأتها «توتال»، «إيرباص»، «رينو»، و«بيجو»، ويمكن أن تصير الأنشطة العالميّة لهذه الشركات مهدّدة في حال واصلت الاستثمار في إيران بعد الحظر الجديد.

«توتال» في كماشة أميركية
عادت المجموعة النفطية الفرنسيّة إلى إيران في تموز 2017، بعد توقيع عقد مع الشركة الوطنيّة الإيرانيّة للنفط لتطوير إنتاج «المرحلة 11» من حقل غاز جنوب فارس الضخم، حيث انخرطت في المشروع ـــ بصفتها مشغّلة ـــ لمدة عقدين بحصّة تبلغ 50.1 بالمئة في «جنوب فارس 11»، وتبلغ قيمة الاستثمار في المرحلة الأولى من المشروع ملياري دولار، منها قسط أوّل بأكثر من مليار دولار.
لكن منذ تشرين الثاني 2017، خفّف باتريك بوياني، وهو المدير العام للشركة، من الحماس المتولد عن هذه الآفاق الإيرانيّة، حيث أكّد أنّ «توتال» ستعيد النظر في خياراتها الاستثماريّة في إيران إذا ما قررت الولايات المتحدة تبني عقوبات جديدة ضدّها. وشدّد بوياني على أهميّة السوق الأميركيّة بالنسبة لمجموعته: «نحن نعمل في الولايات المتحدة، ونملك فيها أصولاً، وسنشتري فيها أصولاً إضافيّة». وردّ وزير النفط الإيرانيّ بإطلاق تحذير يقول: «إذا أعلنت توتال، من دون قرار من مجلس الأمن، عن نيّتها إلغاء العقد، لن نعيد إليها أيّ رأسمال، أو أيّ تحويل أجرته».

قرابة مئة طائرة «إيرباص» للخطوط الجويّة الإيرانيّة
في نهاية 2016، تلقت «إيرباص» طلباً من شركة «إيران للطيران» الوطنيّة بحوالى مئة طائرة، مقابل 20.8 مليار دولار (17.5 مليار يورو). وتوجد طلبات إيرانيّة أخرى في مرحلة المفاوضات، لا سيما لشراء عشرات الطوافات.
تفاعلت «إيرباص» مع الإعلان الأميركيّ الأخير بحذرها المعتاد، حيث قالت مماطلةً: «سوف تدرس المجموعة بتدقيق شديد قرار الرئيس الأميركيّ قبل التحركّ»، مضيفة إنّ ذلك سيأخذ «بعض الوقت». أما راينر أوهلر، وهو مسؤول التواصل في الشركة، فقد قال: «نحن نحلّل هذا الإعلان بعناية ونقيّم الخطوات المقبلة في تناغم مع سياساتنا الداخليّة وباحترام كامل للعقوبات وقواعد ضبط الصادرات». من جهتها، أعلنت «بوينغ»، المنافس الأميركيّ لـ«إيرباص»، منذ مساء الثلاثاء، التزامها بقرار البيت الأبيض إعادة العقوبات وترتيباتها العمليّة الصادرة عن الكونغرس. في كانون الأول 2016، باعت «بوينغ» 80 طائرة إلى «إيران للطيران» مقابل 16.6 مليار دولار، لكنّ التسليم الذي كان ينتظر أن يتمّ نهاية هذا العام، تمّ تأجيله. ووقعت شركة الطائرات الأميركيّة أيضاً عقداً بقيمة 3 مليارات دولار لبيع حوالى ثلاثين طائرة من طراز «737 ماكس» لشركة «آسمان للطيران» الإيرانيّة الخاصّة.

«بيجو» و«رينو» أيضاً وسط الإعصار
تقبع شركتا السيارات الفرنسيتان أيضاً ضمن الإعصار، نظراً إلى نشاطهما المكثّف في السوق الإيرانيّة التي لا يزال معدّل التزوّد بالسيارات فيها منخفضاً نسبيّاً، حيث يُقدّر الآن بحوالى مليون عربة ويُمكن أن يتضاعف خلال العقد المقبل. ولتجسيد هذه الآفاق الواعدة، عادت «بيجو» بداية 2016 إلى إيران بعدما أُجبرت على مغادرتها في 2012، حيث طالب شريكها حينها ـــ شركة «جنرال موتورز الأميركيّة» ـــ بتطبيق الحصار الذي فرضته واشنطن.
في كانون الثاني 2016، وضعت «بيجو» مشروعاً مشتركاً مع شركة «إيران خودرو» التي عملت معها قبل مغادرتها الإجباريّة للبلاد، وقد كان الهدف إنتاج حوالى 200 ألف عربة في العام، وقد انطلق الإنتاج في 2017.
في 2016 (أيضاً)، وقّعت «رينو» التي بقيت تعمل في السوق الإيرانيّة رغم العقوبات، اتفاقاً استراتيجيّاً لتسريع تطوير مبيعاتها في البلاد عبر شركة جديدة مشتركة مع «صندوق الاستثمار والتجديد الصناعيّ في إيران» وشركة «بارتو نيجين». في مرحلة أولى، كان الهدف إنتاج 150 ألف عربة في العام، تُضاف إلى القدرة الإنتاجيّة السنويّة الموجودة والتي تبلغ 200 ألف عربة.

الصين وروسيا ستتأثران أيضاً
منذ 2 أيار الماضي، توقّف الجيش الأميركيّ عن بيع الهواتف الصينيّة من طرازي «هواوي» و«زد تي إي» في المحال الموجودة داخل قواعده، بحجة أنّها تحمل مخاطر أمنيّة. ويندرج هذا القرار في إطار الإجراءات الأوسع التي تستهدف إيقاف أو الحدّ من اختراق المُصنّعين الصينيّين للاقتصاد الأميركيّ. ويشرح الاقتصاديّ هيرفي جوفان، الخبير في «لا إقليمية» القانون الأميركيّ (سلطة الدولة القانونية خارج حدودها extra-territorialité)، أنّه «بإبطال الاتفاق حول النوويّ الإيرانيّ، سيصير من السهل أكثر للسلطات الأميركيّة تحدّي عمليات المزاحمة الصينيّة أو الروسيّة بحجة وجود مكونات في منتجاتهما من تصوّر أو صنع أميركيّ».
العقوبات الأميركيّة التي استهدفت أخيراً رئيس شركة «روسال»، الذي يعرف بلقب «قيصر الألمنيوم»، والمجموعة السويسريّة «غلنكور»، تندرج ضمن نفس المنطق، أي رفع أسعار هذا المعدن 12 بالمئة في أسبوع، «وهو أمر لم يحدث على مدى أربعة عقود»، كما يشرح المختصون. ويضيف هرفي جوفان، «تمديد الوضع القائم حول الفولاذ الأوروبيّ حتى شهر حزيران، لن يمنع أميركا من تبني إجراءات حمائيّة قاسية على صناعاتنا».
قبل مغادرة البيت الأبيض، حذّر باراك أوباما من تجاهل الولايات المتحدة للعالم، قائلاً: «بمضاعفة العقوبات، سوف نجد أنفسنا وحيدين ومكروهين...». أما دونالد ترامب الذي يستبسل في اتخاذ موقف مضاد لسلفه في أغلب الملفات، فيوظّف الحرب ضدّ الإرهاب والفساد وانتشار أسلحة الدمار الشامل لإعطاء أفضليّة للشركات الأميركيّة، وكذلك تحدي مبادئ المنافسة الحرّة التي تدافع عنها «منظمة التجارة العالميّة» ومؤسسات «بريتون وودز». في هذا السياق، وأكثر من أيّ وقت مضى منذ الحرب العالميّة الثانية، يفرض قرار ترامب الأحاديّ الأخير على العالم، بطريقّة فظّة، معايير «قانون الأعمال» الأميركيّة.

«لا إقليميّة» القانون الأميركيّ
هرفي جوفان: «دمّر تطبيق لا إقليميّة القانون الأميركيّ شركات فرنسيّة (خاصّة «ألكاتيل» و«ألستوم»)، وسمح بابتزاز مليارات الدولارات من البنوك الأوروبيّة. ويستهدف هذا الضغط «سانوفي»، «إيرباص»، «سافران» وشركات أخرى، بحجة محاربة الفساد واحترام قرارات الحظر الأميركيّة ومحاربة الإرهاب. الهدف المزعوم هو الفعاليّة الاقتصاديّة، إضفاء طابع أخلاقيّ على التجارة، وضع شروط منافسة حرّة منفتحة ومنصفة في كلّ مكان من العالم، لكنّ كلّ هذا، في الواقع، يدعم إمبرياليّة قانونيّة متنامية، ولا يخدم إلّا المصالح القوميّة الأميركيّة. تنتشر لا إقليميّة القانون الأميركيّ بفضل التخلي عن القانون الدولي، ضعف المنطق السيادي، وإنكار سيادة الدول الأوروبيّة، وتشكّل عنصراً مهمّاً في استراتيجيّة «التقييد العالميّ» التي تجدد استراتيجيّة الإمبراطوريّة الأميركيّة».
من الآن فصاعداً، يجب علينا مواجهة الحقيقة، فباسم مقاومة الفساد، وباسم المقاومة الشرعيّة للممارسات التعسفيّة، تُشن حرب ضدّ حريّة الشعوب في تقرير قوانينها ومبادئها التي يجب أن تسود. ما يجري هو استعمار أميركيّ من نوع جديد ـــ استعمار ناعم وذكيّ ـــ يحدد تدريجيّاً أنّ النموّ الاقتصاديّ (صنم العولمة) لا يحيل على الرغبة في تلبية الحاجيات بقدر إحالته على الهوس بإنهاء منافسيه بكلّ الطرق. هذا الاستعمار الجديد يصل إلى محور حياتنا اليوميّة ليؤثر على وظائف الفرنسيّين، وبقيّة الأوروبيّين والدول النامية.
بالنسبة إلى برونو لومار، وزير الاقتصاد الفرنسيّ، فإنّ «هذا الوضع غير مقبول»، إذ تأسّف صبيحة يوم الأربعاء على وضعيّة «الشرطي الاقتصاديّ للعالم» التي يتخذها ترامب. وفي حوار مع إذاعة «فرنسا الثقافيّة»، قال الوزير إنّه «في عامين، ضاعفت فرنسا ثلاث مرات فائضها التجاريّ مع إيران»، وتوقّع أن يكون للقرار الأميركيّ «نتائج» مؤذية للكثير من الشركات الفرنسيّة الرائدة. كما أكد أنّه سيُجري «حواراً هاتفيّاً قبل نهاية الأسبوع مع وزير الخزانة الأميركيّ ستيفن منوشن» لتدارس إمكانات تجنّب هذه العقوبات.
يبدو أنّ برونو لومار لا يزال يعتقد في وجود «بابا نويل»! يوم يكون للاتحاد الأوروبيّ والدول الأوروبيّة ـــ ومن بينها فرنسا ـــ الشجاعة السياسيّة لتطبيق إجراءات مماثلة، أو معاملة الولايات المتحدة بالمثل، يمكننا حينها التحدث عن ذلك! أما الآن فيمكن اتخاذ إجراءات رمزيّة ضدّ الـ«الغافا» (غوغل، آبل، فيسبوك، أمازون)، وضد محلات «ماكدونالدز» و«ستارباكس» التي تدمّر مطاعمنا ومقاهينا ومراكز مدننا!
بالنسبة إلى دونالد ترامب، فإنّ عبارة «أميركا أولاً» تعني «ضع المال هنا». وتوجد مقولة لسيسيل رودز، رئيس وزراء «مستعمرة الكيب» في جنوب أفريقيا بين 1890 و1896، وأحد مُلهمي نظام الفصل العنصريّ، تقول: «المال هو دم الآخرين...»، ونحن غارقون فيه حتى الرقبة...
*رئيس تحرير موقع prochetmoyen-orient.ch