ثمة اقتناع في الغرب بأنّ قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، يتجاوز الأهداف «الشعبوية» المعلنة من قبل ساكن البيت الأبيض، أو حتى التوجّه الذي قرر أن ينتهجه، منذ حملته الرئاسية، تحت عنوان عريض هو «الانقلاب على إرث باراك أوباما».النظرة الأوروبية للقرار الترامبي تنطلق من زاوية القلق الجدي من «حرب اقتصادية» يعمل الرئيس الأميركي على تأجيجها، وفق أجندة اقتصادية مثيرة، بخلفية تاجر ومقامر، يرفع هدف «جعل أميركا أقوى مجدداً»، الذي لا يمكن تحقيقه، بنظرته، إلا من خلال تقويض الآخرين، وعرقلة كل فرصهم للنمو، حتى وإن تعلّق الأمر بـ«حلفاء» تاريخيين في القارة الأوروبية.
بلغة الاقتصاد، تعني «أميركا أقوى» فرض مزيد من القيود والضغوط على كل الاقتصادات المنافسة للولايات المتحدة.
وبهذا المعنى يمكن فهم الأزمات المتكررة التي يشعلها دونالد ترامب مع كل من روسيا والصين، من بوابة العقوبات الاقتصادية، وفرض الإجراءات «الحمائية»، من قبيل وقف استيراد بعض السلع الحساسة من هاتين الدولتين.
ومع ذلك، فإنّ ترامب يدرك جيّداً أن معركته الأساسية، في ميدان الاقتصاد، تبقى مع الأوروبيين، ومن هنا تأتي رهاناته على التموضعات الاقتصادية المرتقبة لبريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي ضمن عملية «بريكست».
على هذا الأساس، استقبل الأوروبيون في قرار ترامب الانسحاب من «تسوية فيينا»، بخليط من الغضب، عبّرت عنه وسائل الإعلام الألمانية بوصف الخطوة «صفعة على الوجه»، والتنديد الذي ورد على لسان المسؤولين الفرنسيين حين وصفوا تقويض الاتفاق النووي بـ«غير المقبول»، و«الأسف» و«القلق» اللذين حملتهما، في العموم، معظم البيانات الصادرة عن الحكومات الأوروبية.
كل ذلك شكل الحيثية التي تحرّك على أساسها الأوروبيون ـــ ولا سيما الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ـــ خلال الأسابيع الماضية، لثني ترامب عن المضي قدماً في وعيده، والتي طرحوا من خلالها خطة مبهمة، بغية التوصل إلى تسوية جديدة، تبدو شروطها اليوم صعبة أكثر فأكثر.
بطبيعة الحال، فإنّ ما يحرّك الأوروبيين هو الاقتصاد، فانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، سيستتبع، حكماً، إعادة فرض العقوبات الاقتصادية على الجمهورية الإسلامية.
ولا يغيّر في الأمر شيء، أن يكون الانسحاب ـــ وبالتالي العقوبات ـــ أحادية من قبل الولايات المتحدة، فالمنظومة الاقتصادية الأوروبية تبقى مرتهنة للسياسات الأميركية، فالشركات الكبرى مثل «توتال» و«إيرباص» و«سينمنز» و«رينو»، لن تكون قادرة على التحرّر من القيود الأميركية، والاستمرار في الاستثمارات داخل إيران، لكي لا تخاطر بحجبها من السوق الاميركية، وتعرضها لغرامات اقتصادية بسبب أعمالها في الجمهورية الإسلامية.
المقاربة الأميركية للملف الإيراني من شأنها أن تقسم بين أوروبا وواشنطن


في المقابل، لا يجد الاقتصاد الروسي نفسه أمام معضلة كهذه، فالعلاقات الاقتصادية بين روسيا وإيران كانت قائمة، حتى قبل «تسوية فيينا»، والشركات الروسية، أي في مرحلة «العزلة الدولية» التي كانت مفروضة على الجمهورية الإسلامية، بما في ذلك على المستوى النووي، منذ أن وافقت موسكو، في منتصف التسعينيات، على الحلول مكان ألمانيا في تطوير محطة بوشهر.
يضاف إلى ما سبق أنّ الاقتصاد الروسي نفسه يقع تحت تهديد العقوبات الغربية، وقد استطاع التكيّف معها، وامتصاص الكثير من الصدمات التي تسببت بها منذ بداية التصعيد الأوروبي ـــ الأميركي بعد الأزمة الأوكرانية واستفتاء شبه جزيرة القرم، والذي اتخذ مساراً تصاعدياً خلال الفترة الماضية، على خلفية الصراع في سوريا، وواقعة «تسميم» الجاسوس المنشق سيرغي سكريبال.
هذا ما جعل نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف واثقاً في كلامه، حين أعلن، من إيران قبل أيام، أن روسيا «لا تخشى العقوبات»، مؤكداً أن البلدين ماضيان في مواصلة التعاون الاقتصادي على كل الأصعدة.
لكنّ الأمر بالنسبة إلى روسيا، يتجاوز مجرّد «الالتفاف» على العقوبات التي سيصار إلى تجديدها على إيران، والتي يفترض أن تلتزم بها الشركات الأوروبية في مهلة تتراوح بين 90 و180 يوماً، فقرار دونالد ترامب بشأن الاتفاق النووي، وبرغم تنديد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين به، أنعش، في الواقع، الشركات الروسية، وخصوصاً أنه يقوّض منافسيها الأوروبيين الذين اقتحموا السوق الإيرانية بعد «تسوية فيينا»، ما يعيدها إلى موقع الأفضلية.
لعلّ قراءة سريعة في الأرقام المرتبطة بحجم التبادل الاقتصادي بين إيران وروسيا خلال السنوات الماضية تعكس صورة بانورامية للأثر الإيجابي الذي تركه إعلان ترامب على الاقتصاد الروسي، فهو سجّل 1.7 مليار دولار في عام 2017، متراجعاً 2.18 مليار دولار (20 في المئة ـــ سالب) عن عام 2016، غداة بداية تقاطر الأوروبيين إلى الجمهورية الإسلامية بعد أشهر على توقيع الاتفاق النووي.
انطلاقاً من ذلك، فإنّ العقوبات الأميركية، والتزام الشركات الأوروبية بها، سيجعلان الملعب شبه خالٍ للشركات الروسية لمضاعفة استثماراتها في السوق الإيرانية. ولا يقتصر الأمر هنا على مجموعات كبرى «لوك أويل» و«روس نفت» في قطاع البترول، أو «روساتوم» في قطاع الطاقة الذرية، بل يمتد ليشمل شركات أخرى، في مجال التعدين والبنية التحتية والنقل.
وعلى سبيل المثال، فقد شهد «معرض أوراسيا الجوي»، الذي أقيم في تركيا قبل أيام، توقيع صفقة بين شركتي نقل حكوميتين إيرانيتين والجانب الروسي لشراء 40 طائرة «سوخوي سوبر جت 100» بقيمة ملياري دولار. ولعلّ تفاصيل صفقة كهذه، تبدو ملهمة بالنسبة إلى الروس والإيرانيين، وربما لجهات أخرى، لتحدّي الحظر الأميركي، ما يوفر فرصاً إضافية للاستثمار تحت العقوبات، فهذا الطراز من الطائرات لن تتجاوز مكوناته المصنوعة في الولايات المتحدة نسبة العشرة في المئة، ما يقطع الطريق أمام أي إجراءات يمكن أن تتخذها وزارة الخزانة الأميركية لحجب الترخيص عنها.

للصين حصتها المهمة إذ إنّها تموّل مشاريع بالمليارات(أ ف ب )

ولكنّ الفرصة المرتقبة للشركات في إيران، لا تشكل وحدها مصدر «انتعاش» الاقتصاد الروسي من قرار ترامب، فثمة جانب آخر، في هذا السياق، يتعلق بالحكومة الروسية نفسها، وتحديداً بالسياسات الاقتصادية للرئيس فلاديمير بوتين في ولايته الرئاسية الرابعة، وقد تبدّى سريعاً من خلال ارتفاع أسعار النفط إلى أعلى مستوياتها منذ ثلاثة أعوام.
وبالنسبة إلى دولة تحتل المركز الثاني في تصدير النفط عالمياً ـــ بعد السعودية ـــ وتشكل فيها الواردات النفطية مصدراً حيوياً للموازنة العامة، فإنّ الانعكاسات «الإيجابية» لارتفاع الأسعار تأتي في وقت مناسب تماماً لفلاديمير بوتين، تزامناً مع تولّيه رسمياً الولاية الرئاسية الرابعة، التي سيحتل فيها استكمال بناء الاقتصاد الروسي أولوية مطلقة، جنباً إلى جنب مع التوسع في التقديمات الاجتماعية، وفق ما أعلن في خطاب القسَم يوم السابع من أيار الحالي.
وإذا كانت روسيا، وفق تقديرات معظم المحللين الاقتصاديين، تعدّ الرابح الأول جراء قرار ترامب، فإنّ للصين حصتها المهمة في هذا السياق، فهي تموّل مشاريع بعشرات مليارات الدولارات في قطاعات النفط والبنى التحتية والكهرباء، وهي شددت، بعد إعلان ترامب، على أنها عازمة على الاحتفاظ بـ«علاقات اقتصادية وتجارية طبيعية».
وتحوّلت الصين إلى شريك اقتصادي رئيسي لإيران منذ زيارة الرئيس تشي جينبينغ للجمهورية الإسلامية في عام 2015، وما راقفها من توقيع اتفاقيات وبروتوكولات تعاون بمئات مليارات الدولارات.
كذلك، فإنّ بإمكان الصين أن تحقق مكاسب إضافية لاقتصادها، في حال فرضت العقوبات الأميركية، كما هو متوقع، حظراً على تصدير النفط الإيراني، إذ سيكون بمقدار «التنين الآسيوي» أن يستأنف آلية كانت قائمة في فترة الحظر الدولي، من خلال الحصول على النفط الإيراني بعقود معزولة عن النظام المالي الأميركي، في مقابل أسعار مخفوضة للواردات، مع العلم بأن معدّل استيراد الصين من المشتقات النفطية الإيرانية يصل إلى 600 ألف برميل في اليوم.
علاوة على ما سبق، ثمة أفكار أكثر «تطرّفاً» باتت تطرح اليوم، بشأن التأثيرات المرتقبة على السياسات الأميركية في العهد الترامبي. قبل أشهر، وصف المركز الأوروبي للدراسات الاستراتيجية، في أحد تقاريره، المقاربة الأميركية للملف الإيراني بأنها «صدام مقبل» من شأنه أن «يقسم بين أوروبا والولايات المتحدة». لعلّ «صداماً» من هذا القبيل يدفع باتجاه إعادة تشكيل العلاقات السياسية والاقتصادية بين أوروبا من جهة، والصين وروسيا من جهة ثانية، على نحو يقود في نهاية المطاف إلى انتقال الاقتصاد العالمي من الغرب إلى الشرق. وقد يكون حديث إيمانويل ماكرون عن الحاجة إلى «حوار تاريخي مع روسيا»، وتخلي أنجيلا ميركل عن غرورها بطلب المساعدة من فلاديمير بوتين لإنقاذ الاتفاق النووي نذر تموضع جديد ستحدده طبيعة التحركات المقبلة على مسرح السياسة الدولية.