وسط التفرّد الأميركي في ملف الاتفاق النووي مع إيران، واتفاقية باريس للمناخ، وتهديدها لحلفائها برسوم تجارية عقابية، أكّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اليوم، حاجة أوروبا أكثر من أي وقت مضى إلى الاتحاد وإظهار قوة أكبر، فيما يبدو أن الأوروبيين وصلوا إلى نتيجة مفادها أن الاعتماد على أميركا لم يعد ممكناً. جاء ذلك خلال تسلّمه جائزة «شارلمان» على «رؤيته الثاقبة لأوروبا جديدة»، بحضور المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، في مدينة آخن الألمانية، حيث دعاها ماكرون إلى «التحرّك الآن» وبحزم، بخصوص إصلاح الاتحاد الأوروبي.
بعد عام من توليه منصبه، عبّر ماكرون عن نفاد صبره من ألمانيا التي يبدو أنها لا تزال تقاوم مقترحاته الإصلاحية الرئيسية لمنطقة اليورو، بما فيها استحداث وزير مالية مشترك وميزانية مشتركة لدفع النمو. لذلك، لفت الرئيس الفرنسي إلى أن على ألمانيا تجاوز تمسّكها بالفوائض المالية والعمل على إحداث تغيير في هذه المرحلة الحرجة.
يأتي إلحاح ماكرون على ضرورة «إظهار القوّة» الأوروبية بعيد انسحاب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، في مقابل التزام الأوروبيين به، بعدما أخفق القادة الأوروبيون في إقناعه بالحفاظ على الاتفاق. لكن ترامب لم يأبه لمصالح حلفائه، «مهيناً أوروبا من جديد»، التي تجاهد الآن للحفاظ على مصالحها، وفق ما رأى ستيفن إرلانغر في «نيويورك تايمز» الأميركية.
اليوم، وفي هجوم صريح على قرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي، قال ماكرون: «في حال قبلنا بأن تقوم قوى كبرى، حتى ولو كانت حليفة أو صديقة لنا في أحلك مراحل تاريخنا، بتقرير دبلوماسيتنا وأمننا وأحياناً بدفعنا إلى الدخول في أسوأ المجازفات، فإننا بالطبع نكون عندها قد فقدنا سيادتنا». حثّ الرئيس الفرنسي زملاءه الأوروبيين على مواجهة إملاءات الخارج بقوله إن «علينا ألّا نكون ضعفاء وأن نحدّد خياراتنا»، مع العلم بأن الإدارة الأميركية لم تخرج فقط من الاتفاق النووي، بل حذّرت، على لسان مستشارها للأمن القومي جون بولتون، الشركات الأوروبية بأنّها في حال لم تنسحب من إيران (تجارياً)، فستواجه العقوبات الأميركية.

الوحدة ضرورية ولكن...
وصلت المستشارة الألمانية أيضاً إلى نتيجة متقاربة مع موقف ماكرون بقولها إنه لا يمكن مواصلة الاعتماد على الولايات المتحدة، مضيفةً أنه «لم يعد الوضع يلخص بالقول، ببساطة، إن الولايات المتحدة تحمينا، على أوروبا أن تمسك قرارها بنفسها».
لكن المستشارة أشارت إلى أن الخلافات لا تزال تعرقل المزيد من التكامل في الاتحاد الأوروبي، وأن المباحثات «صعبة» بين فرنسا وألمانيا بشأن منطقة اليورو، مع سعي ماكرون لإحراز تقدّم بخصوص عدد من المشروعات الطموحة، خصوصاً موازنة موحدة لمنطقة اليورو ووزير مالية، و«قوات تدخل سريع» مشتركة، وضرائب أوروبية على مداخيل عمالقة التكنولوجيا.
لفتت ميركل إلى أن «الوحدة النقدية والاقتصادية الأوروبية يجب أن تكون أكثر استدامة»، من دون أن تعلّق على دعوة ماكرون لموازنة مشتركة لمنطقة اليورو، مشيرةً إلى أن العمل جارٍ لجعل «منطقة اليورو أكثر مقاومة للأزمات». كذلك، توقّعت التوصّل إلى اتفاقات بخصوص الوحدة المصرفية، علماً بأن حزبها رفض فكرة استحداث منصب وزير مالية مشترك للاتحاد.
دفع موقف الألمان المتردّد بشأن بعض الإصلاحات ماكرون، اليوم، إلى أن يصرّ على رغبته في أن تكون «منطقة اليورو أكثر اندماجاً وبموازنة مستقلة». وجه ماكرون سهامه صوب الألمان بسبب تردّدهم في الإنفاق، وقلقهم من أيّ خطة تسحب الموارد من الدول الغنية لمساعدة الدولة الأفقر في الاتحاد المؤلف من 28 دولة.
عبّر عن ذلك بالقول: «في ألمانيا، لا يمكن أن يكون هناك هوس مستمر بفوائض الموازنة والتجارة، لأن ذلك يتحقّق على حساب الآخرين».

تباعد مؤقت عن أميركا؟
فيما سيلتقي قادة أوروبا الأسبوع المقبل في صوفيا للمشاركة في قمة الاتحاد الأوروبي ودول البلقان، التي أضيف الملف النووي الإيراني إلى جدول أعمالها، يبقى التوتر قائماً مع تحوّل المواجهة بين فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وحليفتهم التاريخية الولايات المتحدة، إلى مواجهة صريحة مع خطوة ترامب الأخيرة.
تهديدات ترامب للمصالح الأوروبية، بشكلٍ مباشر، مع حديثه عن عقوبات «قاسية» ضدّ الشركات الأوروبية المتعاونة مع إيران، تطرح احتمالاتٍ متعدّدة للعلاقة المستقبلية بين أوروبا وأميركا، مع تزايد الخشية من مزيد من التهميش للمعسكر الأوروبي، ومزيد من استبعاده على المستوى الدولي.
مهما كانت الخيارات المقبلة، إلا أن جميعها قد تصبّ في إطار تركيز أوروبا على إثبات حضورها وتحقيق مصالحها. عن ذلك، قالت مديرة «المركز الإيطالي للعلاقات الدولية» والمستشارة المقرّبة من فيديريكا موغيرني، وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، ناتالي توتشي، إنّ «أوروبا لا يمكن أن تكون موجودة في مناخ دولي غير متعدّد الأقطاب». في تعليقها لصحيفة «نيويورك تايمز»، تساءلت توتشي: «أليس من الحكمة الابتعاد مؤقتاً عن إدارة ترامب؟»، مشيرةً إلى أن ذلك حصل إبان غزو العراق في 2003، عندما تحرّكت واشنطن بشكلٍ منفرد، وأعيد إصلاح العلاقات مع قدوم إدارة جديدة إلى البيت الأبيض.