موسكو | شمس الربيع المتأخر تكسر صقيع العاصمة الروسية في الأسبوع الأوّل من نيسان. الثلج التجأ إلى زوايا المدينة المعتمة يحاول عابثاً التمسّك بالشتاء الطويل، وقطع الجليد العائمة فوق نهر موسكو الكبير تقاوم، عاجزةً، ارتفاع دائرة الضوء رويداً رويداً، إلى منتصف السماء.ترى أهالي موسكو، التوّاقين إلى الدفء، يسرقون الوقت لأجل شحنة من نور في الشوارع الوسيعة، وطيور الإوزّ والبطّ الملوّن تغتسل بمياه النهر، ثمّ تأخذ حصّتها من الشمس.
على الضفة الغربية، يقع فندق «راديسون» الشهير. صرحٌ ضخم من أبنية متعدّدة وبرج شاهق الارتفاع يحوي أكثر من ألف غرفة. والبناء رمز من رموز هزيمة ألمانيا النازية التي بنى مئات الآلاف من جنودها الأسرى معالم أخرى كثيرة في روسيا بعد الحرب العالمية الثانية بأمر من القائد السوفياتي جوزف ستالين.
صباح «الراديسون» لم يكن عادياً في اليومين الماضيين. الجنود الروس ببزّاتهم الخضراء الغامقة، يحيطون بالفندق من كلّ حدبٍ وصوب. إنه موعد «مؤتمر الأمن الدولي» بنسخته السابعة الذي تحوّل في السنوات الماضية إلى أضخم مؤتمر أمني تنظّمه موسكو، وإحدى أبرز المحطّات على ساحة التعاون الدولي العسكري والأمني. للمؤتمر السابع خصوصية هذا العام. روسيا تتعرّض لأقسى الحملات الدبلوماسية والإعلامية والأمنية منذ سنوات الحرب الباردة، التي لم تتعرّض لها حتى على خلفيّة دخول الجيش الروسي إلى جورجيا في 2008، ولا في مرحلة ضمّ شبه جزيرة القرم في 2014.
لا يخاف الروس من الآتي. من وحي خطاب الرئيس فلاديمير بوتين (قبل نحو شهر) الذي فاز بولاية رئاسية رابعة، عكست خطابات ومواقف وزير الدفاع سيرغي شويغو إلى وزير الخارجية سيرغي لافروف وباقي قيادات الأجهزة الأمنية والعسكرية، استعداد الروس لمرحلة جديدة من المواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، ومن يرغب من حلفائهما الغربيين في الانضمام إلى حملة العداء ضدّ روسيا. وهؤلاء أيضاً، ينصحون «أميركا وحلفاءها بالتوقّف عن المكابرة والقبول بعالم جديد متعدّد الأقطاب»، كما يقول مصدر عسكري روسي رفيع المستوى لـ«الأخبار».
المندوب الإسرائيلي غادر فور بدء العماد الشّوا كلمته


في القاعة السفلية الخارجية للفندق، مئات المشاركين من 95 دولة، بينهم 30 وزير دفاع وأركان حرب، يناقشون قضايا الأمن العالمي و«القوّة الناعمة» وقلب أنظمة الحكم ومكافحة الإرهاب وأزمات النازحين، والصراعات الدولية حول المحيطات وفي أقاصي القارات. أراد الروس الردّ على محاولات استهدافهم المتعاظمة على خلفية الاتهام البريطاني بمحاولة اغتيال العميل سكريبال بغاز الأعصاب، عبر حشد حلفائهم وتوجيه الرسائل المناسبة.
المحطّة الأولى في المؤتمر كانت رسالة الرئيس بوتين للمجتمعين، وهي في حقيقتها رسالة للأميركيين، عن استعداد بلاده للاستمرار في مكافحة الإرهاب ومدّ يد التعاون والحوار مع من يرغب. لا يخفي المسؤولون الروس اقتناعهم بأن الإرهاب هو الأداة الأميركية لقلب أنظمة الحكم ونشر بقع التوتّر وخلق الأزمات، «أميركا تبدأ بالأزمات ثم تستمر في إدارتها لتستفيد منها، لا لتحلّها» يقول المصدر العسكري. ويعيد المصدر ما قاله بوتين، لكن بوضوح أكبر «نحن واجهنا داعش في سوريا وأنهيناه، لكنهم (الأميركيين) لا يريدونه أن ينتهي. داعش الآن ينتقل إلى الساحل الأفريقي وأفغانستان (4500 داعشي)، والكثير من المنظمات الإرهابية مثله والحركات الانفصالية المتطرفة تولد الآن في جنوب شرق آسيا، في أندونيسيا وماليزيا والفيليبين لإثارة أزمات جديدة حول روسيا والصين». يهزأ الوزير شويغو في كلمته من «التحالف الدولي» الذي نشأ في 2014 بذريعة قتال «داعش» في سوريا والعراق، ويسأل: «30 دولة متقدمة عسكرياً لم تهزم داعش؟ لماذا؟ لأنهم يعملون على زعزعة الأوضاع العسكرية والاقتصادية في الشرق الأوسط، أمّا روسيا فهي غيّرت المعادلة بدعم الحكومة السورية الشرعية في 2015، وبمشاركة دول أخرى في المنطقة، مثل إيران وتركيا». وبوضوح، يشير شويغو إلى الأميركيين وحلفائهم، في ما خصّ الهجوم على مطار حميميم في اللاذقية قبل أشهر، مؤكّداً أنه «لا يمكن للمنظمات الإرهابية أن تنفّذ هجوماً بطائرات مسيّرة تطير حوالى 100 كلم من دون دعم من دول متقدّمة»، مؤكّداً أن روسيا أسقطت حتى الآن 700 طائرة مسيّرة للجماعات الإرهابية في سوريا. أمّا مدير خدمة الاستخبارات الخارجية الروسي، الجنرال سيرغي ناروشكين، فيحذّر أوروبا من أن أميركا تستغلها لنشر العداء لروسيا، وأن الولايات المتحدة ترفض القبول بالمتغيّرات على الساحة العالمية. باختصار، يقول ناروشكين: «على أميركا أن تعرف أنه ليس من مصلحة أحد العودة إلى أزمة تشبه أزمة الكاريبي (خليج الخنازير)»!

تحريض أميركي على المقاطعة
هي ليست المرّة الأولى التي تضطر فيها بعض الدول إلى مقاطعة المؤتمر، خوفاً من الأميركيين. بدأ المؤتمر في عام 2012 تحت مسمّى مؤتمر الأمن الأوروبي وانعقد ليوم واحد، وكانت المشاركة الأوروبية فيه غنيّة جداً، قبل أن ينتقل إلى مسمى مؤتمر موسكو للأمن الدولي، ثمّ إلى مؤتمر الأمن الدولي على مدى يومين، وستّ جلسات في اليوم الواحد. ومنذ عام 2014، ازدادت الضغوط الأميركية على الدول المشاركة، على خلفية أزمة أوكرانيا والقرم. وبعدما كان الملحقون العسكريون والوفود العسكرية لدول أوروبا الغربية يشاركون علناً، تحوّلت المشاركة إلى «سرية»، حيث يكتفي بعض الملحقين العسكريين باللّباس المدني، فيما تغيب قياداتهم العسكرية عن الحضور، كما يشارك أيضاً خبراء ومهتمّون أوروبيون، يبقون على «شعرة معاوية» للاتصال بين الروس وبين دولهم. مصدر عسكري غربي مشارك في المؤتمر، يرفض الكشف عن اسمه، قال لـ«الأخبار»، إن «أزمة سكريبال أثّرت كثيراً على مستوى الحضور وطرد الدبلوماسيين المتبادل يزيد من التوتّر، لكنّنا مضطرون إلى التضامن مع الدول الأوروبية الأخرى مثل بريطانيا، مع اقتناعنا بأنه ليس هناك أدلّة على دور روسي باغتيال سكريبال». وأضاف أن كل المعلومات والأجواء في المؤتمر وخارجه تشير إلى أن التصعيد بين روسيا والغرب سيتصاعد، ونحن لا نرى حلّاً إلا بالحوار». في المقابل، قال مصدر غربي آخر، شارك في المؤتمر، إن «التصعيد الحالي يأخذ شكله في قضيّة سكريبال، إلّا أن الأزمة أكبر من ذلك، إن نظرت إلى الخريطة من جهة روسيا، تظنّ أن حلف الناتو يستعدّ لشنّ حرب عليها من بولندا وأستونيا ولاتفيا وليتوانيا عبر حشد القوات والدرع الصاروخية، وإن نظرت من جهة أوروبا ترى أن الطريقة الأفضل لردع موسكو من التمدّد إلى قلب أوروبا الغربية هي مواجهتها في البلقان وأوروبا الغربية، وهذا ما تفعله بعض الدول». ويضيف أنه «ربّما يكون الروس محقّين بأنه ليس من مصلحة أحد الصدام»، لكن «ربّما من مصلحة الأميركيين وحدهم» يضحك المصدر العسكري.

سوريا «حصة الأسد»
أتت ندوات المؤتمر على مختلف الهواجس الأمنية العالمية، من مكافحة المخدرات إلى تهريب البشر والنازحين إلى الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، فضلاً عن الإضاءة على بقع التوتر المتعدّدة، ولا سيّما شمال أفريقيا وآسيا الشرقية وأميركا اللاتينية. إلّا أن الحديث عن سوريا وهزيمة تنظيم داعش كان المحور الأبرز، حيث تحدّث في الندوة الأولى وزير الدفاع الإيراني الجنرال أمير حاتمي، ونائب وزير الدفاع السوري العماد محمود الشّوا، الذي أكّد على إصرار سوريا على استعادة كل شبرٍ من أرضها، مسمياً تركيا وإسرائيل أكثر من مرّة في كلمته كمصدرين أساسيين لدعم الإرهاب في سوريا. كلمة الشّوا، دفعت مندوب إسرائيل إلى مقاطعة الندوة والخروج مع بداية كلام نائب وزير الدفاع السوري، فيما طلب المندوب التركي من المنظّمين الردّ على الشّوا من دون أن يلقى طلبه تجاوباً. وقال الشّوا لـ«الأخبار» إن «إنجازات الميدان دفعت العديد من الدول إلى تعديل مواقفها تجاه سوريا»، معتبراً أن «روسيا تتعرض لما تتعرّض له سوريا من تزوير وتحريض في ما خصّ مسألة استخدام السلاح الكيميائي كما يحصل في قضيّة سكريبال». وذكّر الشّوا بأن «محطة تحرير الغوطة هي بداية نهاية الإرهاب في سوريا بشكل، وهي محطّة من محطات أساسية بدأت في تحرير القصير وحمص وحلب، ولن تنتهي قبل تحرير كامل الأرض السورية».

الصين وروسيا أقرب
لعلّ أبرز خلاصات المؤتمر، كلام وزير الدفاع الصيني وي فينغ، الذي أكّد بعد لقائه الوزير شويغو، أن زيارته (هي الأولى خارج الصين منذ تعيينه في منصبه) لموسكو، رسالة إلى الأميركيين على اتحاد القوى العسكرية الروسية والصينية ولدعم موسكو في مؤتمرها الأمني السابع. كلام فينغ، يتناسب مع حملة التصعيد المندلعة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية على خلفية فرض أميركا عقوبات على البضائع الصينية وقيام الصين بإجراءات مماثلة. وأكد شويغو أن زيارة نظيره الصيني ليست من قبيل المصادفة، إنما للتأكيد على عمق العلاقات العسكرية المميزة بين القوتين والشراكة في مواجهة التهديدات المشتركة.



امتعاض روسي من لبنان
ترك غياب وزير الدفاع اللبناني يعقوب الصراف عن مؤتمر الأمن الدولي، امتعاضاً روسياً كبيراً حيال الموقف اللبناني، فيما تصفه مصادر عسكرية روسية رفيعة المستوى «انسجاماً مع المواقف الاميركية»، وخصوصاً أنه كان من المفترض أن يوقّع الجانبان اللبناني والروسي اتفاقية للتعاون العسكري المشترك بين البلدين. الامتعاض الروسي ليس محصوراً برئيس الحكومة سعد الحريري الذي تحملّه المصادر الروسية مسؤولية عدم منح الصّراف تكليف توقيع الاتفاقية، بل يتعدّاه إلى رئيس الجمهورية ميشال عون «الذي يرسل دائماً رسائل إيجابية إلى الروس، من دون ترجمتها على أرض الواقع، بالإضافة إلى حلفاء روسيا الآخرين في لبنان». وتقول المصادر إن «المماطلة اللبنانية باتت واضحة، وهي دفع الاتفاقية إلى مراحل لاحقة والتهرّب منها إرضاءً للأميركيين». وتشير المصادر إلى إن «زيارة الصّراف المفترضة لموسكو في 18 نيسان، ستكون أمامها عقبات، بحيث ستكون وزارة الدفاع الروسية وأجهزة الدولة مشغولة بالإعداد لفعاليات تنصيب الرئيس فلاديمير بوتين في 7 أيار المقبل، فضلاً عن أن من المستبعد أن يحصل الصّراف على التكليف بالتوقيع قبل الانتخابات النيابية اللبنانية».


«المصري» يعود إلى العمل في بيروت
على الرغم من العلاقة الوثيقة التي تربط دول الخليج بالأميركيين، إلّا أن السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين، شاركت في المؤتمر، إلّا أن وزراء دفاعها لم يحضروا، فيما حضر نائب وزير الدفاع المصري الجنرال محمد الكشكي، في وقت وقّعت فيه مصر في كانون الثاني الماضي أكبر اتفاقية تعاون عسكري مع أميركا، وتتضمّن الحقّ باستخدام أسلحة الاتصال والإشارة المتبادلة بين الجيشين عند الحاجة. وقال الكشكي لـ«الأخبار» إن «مصر مهتمة بالتعاون العسكري مع الجميع، وتحرص على توازن علاقاتها مع روسيا والولايات المتحدة في الوقت نفسه». وكشف ردّاً على سؤال «الأخبار» عن الدور المصري العسكري في لبنان وسوريا، أن المستشفى العسكري المصري في العاصمة اللبنانية، بيروت، سوف يعود إلى العمل في الأيام المقبلة»، وأن «مصر جاهزة لمدّ الجيش العربي السوري بالمستشفيات العسكرية في حال طلبت ذلك».