مثل اليوم قبل 50 عاماً، شهدت مدينة ممفيس الأميركية اغتيال الناشط الحقوقي الشهير مارتن لوثر كينغ جونيور. جاءت الجريمة في حينه، في ذروة نضال كينغ من أجل حقوق الأميركيين من أصولٍ أفريقية، بعد معاناة طويلة مع التمييز العنصري ضدّهم، والذي كان يتجلّى بأشكالٍ عدة. تمرّ هذه الذكرى في توقيتٍ إشكاليّ تعيشه الولايات المتحّدة والعالم أيضاً، بالتزامن مع تنامي الحركات اليمينيّة والنزعات الشعبويّة حول العالم. مع العلم أن العنصرية على المستوى الشعبي في الولايات المتحدة، لم تخفّ وتيرتها، على الرغم من محاولات الأقلّيات انتزاع حقوقهم المدنية والسياسية في العقود القليلة الماضية. غير أن وصول دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة، منح صوتاً ورافعة لتلك الحالة، بعد ثماني سنوات من حكم باراك أوباما الذي تم الاحتفاء به - أميركياً - كأوّل رئيسٍ من أصولٍ أفريقية.
من هو لوثر كينغ؟
تحتفل الولايات المتحدة بذكرى ولادة كينغ في 15 كانون الثاني وتخصص للمناسبة عطلة رسمية في ثالث يوم اثنين من كانون الثاني كل عام.
نشأ كينغ في مدينة أتلانتا في ولاية جورجيا في أجواء من التمييز العنصري، وحصل على دكتوراه في علم اللاهوت، قبل أن يساهم مع آخرين عام 1955، في تنظيم أوّل احتجاج مهمّ لحركة الحقوق المدنية للأميركيين من أصول أفريقية. حينها، جرت المقاطعة التاريخية التي استمرت عاماً كاملاً، لحفلات النقل في مدينة مونتغومري في ولاية ألاباما. تلك المقاطعة كسَرت قانون الفصل العنصري في الولاية، والتي كانت تجبر على سبيل المثال، إخلاء المواطنين ذوي البشرة السوداء مقاعدهم في الحافلات للركاب «البيض».
لكينغ الذي كان قسّاً إلى جانب كونه ناشطاً حقوقياً، العديد من المقولات الشهيرة، منها «الظلام لا يمكن أن يطرد الظلام، الضوء فقط يستطيع أن يفعل ذلك، الكراهية لا يمكن أن تطرد الكراهية، الحب فقط يمكن أن يفعل ذلك».
تأثر كينغ بالماهاتما غاندي، فدعا إلى العصيان المدني والمقاومة غير العنفية للفصل العنصري في جنوب الولايات المتحدة، إلا أن الاحتجاجات السلمية التي قادها، غالباً ما قوبلت بالعنف. في عام 1964، حقّقت حركة الحقوق المدنية الأميركية اثنين من أهم نجاحاتها: إقرار التعديل الـ24 على الدستور الأميركي الذي ألغى ضريبة الاقتراع، وقانون الحقوق المدنية لـ1964 والذي ألغى التمييز على أساس العرق في التوظيف والتعليم وجرّم الفصل العنصري في المرافق العامة. ولاحقاً في العام ذاته، أصبح كينغ أصغر الحائزين على جائزة نوبل للسلام سناً.
اغتيل كينغ بالرصاص في ممفيس في ولاية تينيسي، ما وضع حدّاً لزعامته لحملة سلمية من أجل حصول الأميركيين من أصل أفريقي على حقوق متساوية. جاء مقتله صادماً لا سيما للولايات المتحدة التي شهدت في العام نفسه أعمال شغب عنصرية وتظاهرات عنيفة ضد الحرب في فيتنام واغتيال المرشح الرئاسي روبرت كنيدي. اغتاله محكوم سابق يُدعى جيمس إيرل راي الذي عُرف بكراهيته للأميركيين الأفارقة والذي عمل في مرحلةٍ ما مع الحملة الرئاسية لجورج والاس، أحد السياسيين المعروفين بتأييدهم للفصل العنصري.
()

«رمزٌ للإستبلشمنت»
منذ اغتياله، احتضن «الاستبلشمنت» الأميركي، مارتن لوثر كينغ جونيور، كرمزٍ حظيَ بقدسية معيّنة، للنضال الحقوقي اللاعنفي. يشير مقال في صحيفة «ذي إندبندنت» إلى أن الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة عاملت لوثر كينغ كنموذج «لطيف» و«مهذب» لا يهدّد مصالحها في سبيل نضاله. لكن في الحقيقة، إن الرجل كان معارضاً راديكالياً لهذه الطبقة، وقد مثّل تهديداً للواقع السياسي، الاقتصادي والعسكري، في البلاد. ولفتت الصحيفة إلى أن كثيرين يعتبرونه بطلاً لحقوق الأميركيين الأفارقة، لكنه في الواقع «كان أكثر من ذلك بكثير»، إذ عُرف أيضاً بمناهضته للحرب الأميركية في فييتنام، كما دعم إضرابات العمّال وطالب بالعدالة الاجتماعية للفقراء الأميركيين السود والبيض على حدّ سواء.
نال كينغ دعم الحكومة الفدرالية وقسم كبير من الأميركيين من خلال الكاريزما التي تمتّع بها وأسلوبه القوي في الخطاب ومناداته بالقيم المسيحية والأميركية. وفي 28 آب 1963، توّجت مسيرة تاريخية إلى واشنطن للمطالبة بالوظائف والحرية بخطاب كينغ الشهير «لديّ حلم». وفي ذلك اليوم، ألقى كينغ خطابه الشهير قائلاً: «لديّ حلم أنه في يوم ما ستنهض هذه الأمة وتعيش المعنى الحقيقي لعقيدتها الوطنية بأن كل الناس خلقوا سواسية، لدي حلم أن أطفالي الأربعة سوف يعيشون يوماً ما في دولة لا تُطلَق فيها الأحكام عليهم للون بشرتهم، بل لشخصياتهم».
()

زمن ترامب
بحسب مركز «قانون فقر الجنوب»، هناك أكثر من 600 منظمة تنادي بتفوق البيض في الولايات المتحدة، وهو العدد الذي ارتفع منذ إعلان ترامب ترشحه للرئاسة عام 2015. ويشهد الأميركيون منذ تولي ترامب الرئاسة ازدياداً في الخطاب العنصري، ليس ضدّ السود فحسب، بل ضد كل الأقليات أيضاً، أكانت عرقية أو جندرية أو دينية.
وكالة «رويترز» نقلت عن الزميل السابق لكينغ، الأسقف في كنيسة قرب ممفيس، إي. لين براون، قوله إن العنصرية التي ساعدت جهود كينغ في كبحها «عادت من جديد»، مضيفاً «كانوا يخشون الكشف عن وجههم القبيح. الآن أعطاهم ترامب صوتاً وخلق مناخاً لا يخافون فيه الكشف عن وجههم القبيح».

شوفينية ترامب وصلت إلى الرياضة

حتى الرياضة لم تسلم من تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي تحتوي على عنصرية أو شوفينية أميركية. في أيلول الماضي، وجّه ترامب انتقادات للاعبين بارزين في كرة القدم الأميركية، داعياً إلى طرد اللاعبين الذين يحتجون أثناء عزف النشيد الوطني، في إشارة إلى سلسلة من الاحتجاجات بدأها اللاعب، كولين كبرنيك، العام الماضي. وقال ترامب آنذاك: «هل تريدون من أي مالك لفريق كرة القدم الأميركية، عندما يرى لاعباً يهين العلم الوطني، أن يقول أخرجوا ابن العاهرة هذا من هنا إنه مطرود».


كذلك، يأخذ الناشطون والمدافعون عن الحقوق المدنية ردّ فعل ترامب على مسيرة في شارلوتسفيل طالب فيها متظاهرون من القوميين البيض بالحفاظ على آثار من عصر العبودية.
وبعدما قتل قومي أبيض متظاهرة من الفريق الآخر حينما قاد سيارته وصدم حشداً، قال ترامب إن اللوم يقع على «الكثير من الأطراف». برغم ذلك، أشاد ترامب بكينغ في ذكرى ميلاده الأخير في كانون الثاني الماضي، حين أشار إلى «تراجع معدل البطالة لمستويات تاريخية» بين الأميركيين الأفارقة، للدلالة على أن هؤلاء يستفيدون من رئاسته.

ماذا جرى؟
العوامل التي أدت إلى الوضع الراهن عديدة. بحسب مقال آخر في صحيفة «ذي إندبندنت»، أدّى تغيّر البيئة السياسية بشكل دراماتيكي في الثمانينيات بعد نزوعها إلى اليمين دوراً أساسياً في ذاك. بعد وصول رونالد ريغان إلى الرئاسة ودفاعه عن مبدأ «حقوق الولايات»، ثم استبعاد أجندة الحقوق المدنية من الواجهة. لاحقاً، مثّلت رئاسة أوباما مصدر غبطةٍ للسود في الولايات المتحدة، غير أنّ ذوي النزعة الفوقية البيضاء نظروا إليها كآخر «مسمار في نعش امتيازات البيض». منذ ذلك الحين، تنامت تلك النزعات اليمينية، وأشارت الصحيفة البريطانية في هذا الإطار، إلى أن ترامب «لم يخلق مناخ الكراهية العنصرية، بل هي من خلقه».
وحمّلت الصحيفة أيضاً جماعات الأميركيين الأفارقة مسؤولية هذا التراجع، بسبب سوء تنظيمهم وضعفهم سياسياً وأيديولوجياً حالياً، داعيةً إياهم إلى إطلاق برنامج سياسي شامل بقيادة أكثر حزماً، وهو ما يمكن تعلمه من كينغ، بحسب الصحيفة.