بطبيعة الحال، لا يصوّت البريطانيون في الانتخابات الأميركية، فالولايات المتحدة استقلت عن التاج البريطاني منذ أكثر من ٢٣٠ عاماً، وسيقتصر تصويت الأميركيين المقيمين في المملكة المتحدة على آلاف قليلة من الأصوات يدلون بها في سفارتهم أو بالبريد. وحتى هؤلاء لن يمثلوا أي ثقل نوعي من شأنه التأثير في نتيجة الاستحقاق الأميركي المرتقب غداً الثلاثاء.لكن التفكير في السؤال النظري عمّن كان يمكن أن يفوز بأصوات البريطانيين لو أتيح لهم التصويت للاختيار بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، يقدّم فرصة مثاليّة للنفاذ إلى العقل البريطاني المعاصر، وفهم ميكانيزمات كيفيّة تكوّن الرأي العام في "الإمبراطوريّة المتقاعدة".
تاريخياً، اهتم البريطانيون دوماً بما يحدث على الجانب الآخر من الأطلسي، وبالذات منذ فترة الخمسينيات التي بدأت تشهد موجة أمركة عالميّة غير مسبوقة نتيجة تولي الولايات المتحدة دور الإمبراطوريّة العالميّة. وقد مثلت الثقافة الأميركيّة لكثير من الشبان البريطانيين قوة تحرر من القناعات الرماديّة للحياة اليوميّة البريطانيّة، ومنفذاً آمناً لمقاومة الثقافة الارستقراطيّة القديمة. وقد أسهم ذلك، إلى جوانب عوامل اقتصاديّة واجتماعيّة محليّة أيضاً، في نشوء نوع من الثقافة الشعبويّة موازية لثقافة الطبقة المسيطرة ــ ثقافة سوقيّة ووحشيّة وشبه عفويّة لقاطني المدن الهامشيّة من غير المنتمين والمحرومين ثقافيّاً، والذين ابتدعوا، وما زالوا يبتدعون، خرافات تفوّق وانحيازات عنصريّة يواجهون بها التهديد المستمر الذين يعيشون في ظله (خطر فقدان الوظائف المحدودة والسيئة أصلاً، تهديد العلم الحديث بعدما صار أداة طيعة في يد السلطة الحاكمة، وكذلك الفساد غير المرئي بيد المهيمنين على اقتصاد البلاد).
اهتم البريطانيون دوماً بما يحدث على الجانب الآخر من الأطلسي

في المقابل، بقيت طبقة من المتفوقين اجتماعياً ــ من متخرجي الجامعات المرموقة وأبناء ارستقراطيي مرحلة الإمبراطورية التي انتهت، و"شعب" مدينة الأعمال في لندن، ومصالح الرأسمال وطبقة الياقات البيضاء المرتبطة بها في لندن وعدد قليل من المدن الكبرى الأخرى، والمهاجرين الأثرياء ــ تعيش في أجواء تشبيك مع منظومة العولمة، تقدم خدمات بنكيّة واستثماريّة وثقافيّة لسوق المال الدولي، وتشترك في ثقافتها اليوميّة مع نيويورك وهونغ كونغ ودبي وباريس أكثر مما تشترك به مع سكان كوفنتري أو يورك أو نورثهامبتون.
هذا الانقسام الأيديولوجي الحاد بين أمتين (طبقتين سافرتين في المنظور الماركسي) في المملكة المتحدة بدا واضحاً خلال الاستفتاء الشعبي الذي نظّم في ٢٣ حزيران/يونيو الماضي (البريكست): نصف البريطانيين تقريباً صوتوا للخروج من الاتحاد، بينما نصفهم الآخر أراد البقاء بشدّة. في الواقع، لم يكن الاتحاد الأوروبي بحد ذاته موضوع التصويت. فبريطانيو المدن المهمشة صوتوا ضد موقف الطبقة المهيمنة دون كبير اهتمام فعلي بتفاصيل العلاقة مع أوروبا، أي ضد الطبقة التي اصطفت موضوعياً للبقاء ضمن مناخ التشبيك المعولم من خلال العلاقة مع الاتحاد الأوروبي (للمفارقة فإنّ الطبقة المهيمنة تحالفت، دون تخطيط مسبق، مع الشعوب الساعية إلى الاستقلال عن حكم الإنكليز في اسكتلندا وجبل طارق وأيرلندا الشماليّة، وإلى حد ما ويلز).
السياسيون الشعبويون هم دائماً أفضل من يقرأ مثل هذه الانقسامات، ويتفننون في توظيفها للصعود إلى حيث السلطة والنفوذ. وهكذا نشأت في بريطانيا منذ بداية القرن الحادي والعشرين أحزاب شعبوية جديدة، بل وتيارات داخل الحزب الحاكم نفسه، تخطب ودّ هذه الكتلة الشعبية المضادة للهيمنة، دون تقديم بديل أيديولوجي أو اقتصادي مقنع سوى الانعزال وبناء الجدران الوهميّة (أو الحقيقية)، وتحميل هموم الاقتصاد والفقر لقلة من المهاجرين الاقتصاديين القادمين من شرق أوروبا ومستعمرات بريطانيا السابقة. هذه الكتلة (البيضاء) من الناخبين هي التي جعلت حزباً أيديولوجياً مثل "حزب الاستقلال" يتحوّل بين يوم وليلة إلى قوة ثالثة (بعد الحزب الحاكم وحزب العمال المعارض). وهي نفس الكتلة التي تغازلها رئيسة الوزراء، تيريزا ماي، اليوم، سعياً منها إلى الحصول على شعبية تضمن بقاءها وحزبها في السلطة لعقد قادم.
ذلك كله أساسي لفهم كيف سيصوّت البريطانيون لو تسنّت لهم المشاركة في الانتخابات الأميركية. فأنصار البريكست، جميعاً ودون استثناء تقريباً، سيختارون بالضرورة دونالد ترامب (الشعبوي العالي الصوت، بطل برامج الواقع التلفزيونية، الشديد النقد للسلطة الحاكمة وللبيروقراطيين، عدو المهاجرين الأول، المتدثر بعباءة الإسلاموفوبيا وكل المختلفين، ونبي بناء الجدران العازلة). ترامب نفسه، كان قد صوّت رمزياً في حزيران الماضي لمصلحة البريكست، ودعم قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
أما أنصار معسكر البقاء، فلا بد أن يختاروا هيلاري كلينتون، وهي ابنة الإمبراطوريّة المعولمة، وخادمة السياسات الليبراليّة، وبالتالي هي الأقدر، برأي هؤلاء، على إدارة البيروقراطية الأميركية في مواجهة التحديات العالميّة، التي تتواءم سياساتها مع الانفتاح الاقتصادي، والاتفاقات الدوليّة للتجارة العالميّة، والتقبّل (الفارغ من المضمون) للآخر. قرّاء "ذا غارديان" و"تايمز" يصلّون من أجل فوز كلينتون.
يقول مايكل كيوليناني، البروفيسور البريطاني في التاريخ الأميركي، إنّ "الطبقة السياسية في بريطانيا ترى هيلاري كلينتون خياراً آمناً يضمن الاستمرارية أكثر من ترامب". لكنه في الوقت نفسه لا ينفي وجود سياسيين شعبويين يدعمون وصول دونالد ترامب إلى السلطة.
إذن، لعلّ التصويت النظري للبريطانيين في الانتخابات الأميركيّة سيكون بمثابة تصويت على "بريكست" آخر: انقسام شديد، وحرب طبقيّة يتسلق عليها الشعبويون.