يجري الاقتراع، عادة، في انتخابات الرئاسة الفرنسية بالأغلبية المباشرة على جولتين. ومنذ أن أقدم الرئيس جاك شيراك، في نيسان 1997، على خطوته الشهيرة، غير المحمودة العواقب، بحل المجلس الوطني (البرلمان)، اختل توازن الرزنامة الانتخابية، بحيث لم تعد الانتخابات التشريعية تجري عند منتصف الولاية الرئاسية، لتتيح للناخبين فرصة إعادة تقييم الأغلبية الحاكمة وتنحيتها إذا اقتضى الأمر، عبر منح الأغلبية النيابية للمعارضة، وإرغام الرئيس على التعايش مع "حكومة مساكنة".منذ سابقة عام 1997، بات الاستحقاق التشريعي يجري بعد شهر واحد من انتخابات الرئاسة، ما حوّله إلى مجرد "جولة ثالثة" من الاستحقاق الرئاسي في استفتاء لتأكيد الثقة بالأغلبية الرئاسية: لا يعقل أن ينتخب الفرنسيون رئيساً للجمهورية في شهر أيار، ليطيحوه في الشهر التالي عبر منح الأغلبية النيابية لمعارضيه!
لكن انتخابات الرئاسة الفرنسية، التي انطلقت حملتها الشهر الماضي، والتي ستقام جولتاها الرسميتان في 23 نيسان و7 أيار من العام المقبل، لن تضم ثلاث جولات فحسب، بل إنها ستجري، هذه المرة، على أربع جولات. فكل الاستطلاعات والتحاليل والتقديرات تجمع على أن الاقتراع التمهيدي، الذي سيقام الشهر المقبل، لتعيين مرشح اليمين، سيكون له تأثير حاسم وغير مسبوق في مسار السباق الرئاسي. وهناك مؤشرات متزايدة ترجح بأن هذه "الجولة ما قبل الأولى" قد تكون هي الفيصل في تحديد هوية نزيل الإليزيه المقبل، وذلك قبل نحو ثمانية أشهر من الموعد الرسمي للاقتراع. ثلاثة معطيات أساسية تفسر هذه المفارقة غير المسبوقة في تاريخ الانتخابات الديموقراطية الغربية:
* الإخفاقات المتعددة الأبعاد للرئيس فرنسوا هولاند وحكومته، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً، التي جعلت شعبية الرئيس تنهار إلى أقل من عشرين في المئة، الأمر الذي لا يقوّض حظوظ هولاند في الظفر بولاية رئاسية ثانية فحسب، بل يكاد يقضي على أي فرص فعلية لبقاء اليسار في الحكم، أو حتى استمرار وجوده كقوة رئيسية ومؤثرة في الساحة الفرنسية، على الأقل في صيغته التقليدية التي يمثّل "الحزب الاشتراكي" عموده الفقري.
*إصرار الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، على خوض المعترك الرئاسي مجددا، برغم الفضائح السياسية والمالية التي تلاحقه منذ أن غادر قصر الرئاسة، وبرغم استطلاعات الرأي التي تؤكد جميعها أن غالبية الفرنسيين تنظر بعين القلق والتوجس إلى عودة "كابوس الساركوزية"، الذي سبق أن عانت البلاد مرارته على مدى خمسة أعوام (2007 ــ 2012).
يشير الهاشتغ إلى تسعيرة الاشتراك في الاقتراع التمهيدي اليميني

* تصاعد شعبية اليمين المتطرف بشكل غير مسبوق، حيث باتت "الجبهة الوطنية" اللوبينية ــ نظريا ــ هي القوة السياسية الأولى في البلاد، بمخزون يقدّر بنحو 30 في المئة من الناخبين. فيما تراجعت قوى اليسار واليمين التقليديين إلى ما دون العشرين في المئة، بفعل العاملين الآنفي الذكر، أي الاخفاق الهولندي والشطط الساركوزي.
لعلّ تفاعل هذه العوامل الثلاثة جعل مرور اليمين المتطرف إلى الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة المقبلة أمراً واقعاً وحتمياً. إذ، تشير استطلاعات الرأي، منذ أشهر، إلى أن مارين لوبان ستحل في المنزلة الأولى أو الثانية، مساء 23 نيسان المقبل، في أعقاب الجولة الأولى من الاقتراع الرئاسي، وذلك أيّا كان المرشحون الذين سيمثلون اليمين واليسار التقليديين خلال هذه الجولة.
هذا "السيناريو الكارثي" أفرز حالة هلع لدى الرأي العام الفرنسي. صحيح أن المخزون الانتخابي لليمين المتطرف لا يتجاوز ثلث الناخبين، ولا يمنحه بالتالي أي فرص فعلية للخروج منتصرا في الجولة الرئاسية الثانية، التي يحتاح الفائز فيها إلى أكثر من ٥٠ في المئة من أصوات الناخبين، إلا أنّ حضور لوبان في الجولة الثانية من شأنه أن يضع الناخبين أمام خيار مرّ قد يضطرهم إلى الاقتراع لساركوزي أو لهولاند، من أجل سدّ الطريق أمام الميين المتطرف.
انطلاقاً من هنا، جاء الاهتمام المتزايد بالاقتراع التمهيدي المتعلق بتعيين مرشح اليمين. ففيما لا يتجاوز عدد المنضوين رسميا في حزب "الجمهوريين"، الذي ينتمي اليه المرشحون اليمنيون السبعة، ربع مليون شخص، فوجئ القيّمون على هذا الاقتراع التمهيدي بأن أكثر من ثلاثة ملايين ناخب سجلوا أنفسهم رسميا للمشاركة في هذا الاقتراع!
وبيّن استطلاع للرأي أجراه المركز الفرنسي للأبحاث السياسية، الأسبوع الماضي، أن غالبية هذا "الفائض الانتخابي"، الذي سيشارك في الاقتراع التمهيدي اليميني، هي من ناخبي اليسار، الذين قال ٦٦ في المئة منهم إنهم يعتزمون خوض هذه الجولة الرئاسية "ما قبل الأولى"، لإقصاء ساركوزي باكراً، خشية أن يضطروا إلى التصويت له، اذا وصل الى الجولة الرئاسية الأخيرة في مواجهة مارين لوبان.
ولا يقتصر الامر على ناخبي اليسار فقط، بل إنّ قطاعاً واسعاً من الشباب الفرنسي، الذي نادراً ما يهتم بالشأن السياسي، أطلق على شبكات التواصل الاجتماعي هاشتاغ لا يخلو من الطرافة: #4_يورو للتخلص من ساركوزي! في إشارة إلى تسعيرة الاشتراك الذي يجب دفعه على كل من يريد المشاركة في الاقتراع التمهيدي اليميني.
ويسعى هؤلاء إلى التأثير في نتيجة الاقتراع، لترجيح كفة مرشح يميني أكثر توازناً، لن يصعب على قوى اليسار والوسط التصويت له، إذا تطلب الأمر ذلك بهدف سد الطريق أمام اليمين المتطرف. والأرجح أن يكون المستفيد الأبرز من هذه الظاهرة المستجدة هو المرشح الديغولي، ألان جوبيه.