بعد تداول الشائعات حول مستقبله السياسي لعدة أشهر، حسم وزير الاقتصاد الفرنسي، إيمانويل ماكرون الجدل، أمس، باستقالته من منصبه، ليُستبدَل به وزير المالية الأسبق، ميشال سابان لمنصبي المالية والاقتصاد معاً. لكن هذه الاستقالة أثارت تنديدات بعمل ماكرون الحكومي، وكذلك برغبته في العمل مستقلاً. وفي مؤتمر صحافي تلا قبول استقالته، قال ماكرون إنه يأمل أن يبدأ «مرحلة جديدة في معركته السياسية» وبناء «مشروع سياسي يخدم المصلحة العامة». ودون أن يعلن رسمياً ترشحه لرئاسة الجمهورية، على الرغم من الشائعات التي تدور حول إمكانية إقدامه على هذه الخطوة، قال ماكرون إنه «بداية من نهاية شهر أيلول، سأقدم تشخيصاً لفرنسا، بنيتُه بمساعدة عشرات آلاف الفرنسيين. وبعدها، سأقدم اقتراحات وأفعالاً تتوافق بعمق وتناسق مع الرؤية التي نحملها. هذا مشروع واقعي، ضروري، يرد لفرنسا مكانتها... بلدنا يستحق منا أن نقوم بالمخاطرات لأجله... حركتنا تستطيع تغيير فرنسا ابتداءً من العام المقبل». وعبّر الوزير الشاب عن نفاد صبره من «النظام السياسي»، مضيفاً أنه «في الجهورية الخامسة، الوقت الوحيد الذي تدور فيه نقاشات سياسية مفيدة للقيام بتغييرات ضرورية، هو خلال الحملات الرئاسية».
وبعد الاجتماع بين ماكرون والرئيس فرانسوا هولاند، مساء أمس، أكد الإيليزيه أن ماكرون استقال من الحكومة «ليتفرغ كلياً للعمل في حركته السياسية». ونقلت صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية عن محيط فرانسوا هولاند أن ماكرون خرج من الحكومة «لأنه لا يريد الامتثال لقواعد هولاند ليبقى داخل الحكومة». وفسّر المصدر للصحيفة أن «رئيس الجمهورية وضع قواعد واضحة ذكر بها في 14 تموز تتعلق بتناسق العمل الحكومي وفاعليته»، وبما أن «إيمانويل ماكرون يريد التفرغ كلياً للعمل بتياره السياسي، فهو غير قادر، ولا يريد العمل وفقاً لهذه القواعد، ولذلك استقال».
ومنذ الصباح، تداولت صحف فرنسية عن مصادر في محيط ماكرون نيته الخروج من الحكومة، فيما لم تلحظ صحيفة «لوموند» عنصر المفاجأة في الخبر، إذ إن الوزير الشاب أظهر مراراً خلال العام الماضي مؤشرات تدل على نيته «الاستقلال» وخوض تجربة سياسية منفردة، قد تصل إلى الترشح لرئاسة الجمهورية. وكان ماكرون (38 عاماً) قد بدأ بالتمهيد لدور سياسي جديد منذ نيسان الماضي، بعد مغادرته لـ«الاشتراكي»، وإطلاق حملته السياسية: «إلى الأمام!»، التي تضم الآلاف من المتطوعين، مهمتهم استطلاع آراء الفرنسيين مباشرةً، التي يقول ماكرون إنها لا تنتمي سياسياً إلى اليمين ولا إلى اليسار.
وجاءت ردود الأفعال على استقالة ماكرون منددة برصيده في العمل الحكومي وسياساته الاقتصادية التي قادها خلال العامين الماضيين كوزير للاقتصاد، وقبل ذلك كمستشار اقتصادي لرئيس الجمهورية. فقد قال المرشح اليساري لرئاسة الجمهورية، جان لوك ميلانشون، إن «ماكرون يغادر الحكومة ليكون مرشحاً للرئاسة. هولاند لا ينتج إلا الوحوش السياسية». من جهته، رأى «رئيس المعارضين» في «الحزب الاشتراكي»، كريستيان بول، أن مغادرة ماكرون للحكومة ليست مجرد خروج، بل هي عبارة عن «هجر» سيولّد «مشكلة وفاء مع رئيس الجمهورية»، وذلك لأن ماكرون كان «محبوب» هولاند، وهو من وضع «السياسات الاقتصادية خلال عهد هولاند إلى حد كبير». كذلك، قال المرشح الجمهوري، نيكولا ساركوزي، ساخراً: «كما فهمت، مررنا بأربع سنوات من السياسة الاقتصادية، وخلال أربع دقائق سنكون بلا وزير اقتصاد. هذا أمر منطقي». ورأى العضو في الجناح اليساري في «الحزب الاشتراكي»، تعليقاً على استقالة ماكرون أن «أفكاره ستتبخر سريعاً. ما كان ينبغي له أن يكون جزءاً من حكومة ولدت من اليسار، خطابه سريع الزوال، ومفاهيمه رجعية، ومعه كنا سنعود إلى القرن التاسع عشر». أما المتحدث باسم الحكومة، ستيفان لو فول، فقد انتقد ماكرون، قائلاً إنه «عندما نكون في الحكومة، نعمل كفريق... وبمواجهة الواقع والمصاعب، نجد الحلول الضروية بإرادة قوية ونعمل للمصلحة العامة».
وتعرض ماكرون لانتقادات عديدة سابقاً، نتيجة لسياساته الاقتصادية، فالوزير الشاب يُعَدّ من «مناصري الشركات» ويعتمد سياسات ليبرالية لا تحظى بالقبول لدى جزء من اليسار في البلاد، وقال صراحة إنه «ليس اشتراكياً». لكن ماكرون عبّر، أمس، عن «فخره» بعمله الحكومي، «لأنني تمكنت من القيام بتغييرات ضرورية لحياة الفرنسيين، خصوصاً في ما يتعلق بالنمو... وهذا أسهم بإعادة إنعاش اقتصادنا». واعترف بالمقابل بأنه أخفق في بعض المحطات، «بعض الشركات أخفقت وأصبح العاملون فيها عاطلين من العمل. فشلت أحياناً بالتعبير عن ضرورة القيام بإصلاحات جذرية لاقتصادنا».
ولعل أسوأ المحطات بمسيرة ماكرون هي مدافعته عن قانون الاقتصاد الذي، وفق توصيفه، يدعم «النمو والحركة والمساواة في الفرص الاقتصادية». وهذا القانون، المسمى «قانون ماكرون»، الذي أطلقه بعد نحو عام من توليه منصبه، والذي اعتمد دون تصويت في البرلمان عبر المادة 49-3 من الدستور لأنه لم يحظ بالقبول. ولا تتسم علاقة ماكرون برئيس الحكومة، مانويل فالس، أيضاً بالتوافق، فالأخير لم يُخفِ في نيسان الماضي انتقاده لإطلاق ماكرون لتياره السياسي، قائلاً إن ماكرون «يستسلم للإغراءات الشعبوية» ويشجب «النظام فيما هو أصلاً من نتاج نخبة هذه الجمهورية».