لم تعد الأيام القليلة المتبقية من ولاية الرئيسة البرازيلية المعلّقة مهامها، ديلما روسيف، تؤرق الرئيس بالوكالة، ميشال تامر. فالرجل استطاع اقتناص رئاسة البلاد في لحظة تاريخية أطاحت بحكم اليسار المتربع على عرش السلطة منذ أربعة عشر عاماً. وعلى الرغم من المشهدية القانونية المملة التي ستشهدها البرازيل في 25 آب الحالي، والتي ستستمر لأربعة أيام على الأقل، فإن نتيجة تصويت مجلس الشيوخ على الإقالة النهائية لروسيف باتت محسومة، خصوصاً بعد قطف المعارضة لثلاثة أصوات إضافية، بما يكفي لإزاحة العماليين عن كرسي الرئاسة نهائياً.في الإجراءات، تصر المعارضة على تخريج «الانقلاب الدستوري» بصيغة قانونية مُحكمة، لتفادي الانتقادات المحلية والدولية التي تتهمها بحياكة ملف قضائي صاخب في الشكل وفارغ في المضمون. في المقلب الآخر، يسعى العماليون إلى تسجيل مواقف عالية النبرة من خلال المطالعات القضائية التي انكب على إنجازها عدد كبير من الحقوقيين. وعلى الرغم من اقتناع فريق روسيف بأن ملف الإقالة قد أُنجز في الدوائر السياسية المغلقة، وأن جلسات المحاكمة لا تعدو كونها إجراءً شكلياً، فإن المواجهة القضائية ستؤسس لمرحلة ما بعد الإقالة.
البرازيل مقبلة على أزمة حكم لا يحلها غير تيارات سياسية جديدة

في هذا الإطار، يتحدث مقربون من حزب العمال عن قناعتهم بأن عودة روسيف المستحيلة قد لا تخدم الحزب في المرحلة المقبلة، وأن خروج اليسار بصفة الضحية والمعتدى عليه قد يكون إنجازاً مرحلياً يستفيد منه على المدى المنظور، خصوصاً في خطابه الانتخابي المقبل عام 2018.
ويؤكد العماليون أنهم لن يخرجوا من السلطة قبل تعرية حكم تامر ووضعه على محك الشرعية. وبالتالي، سيكون الثمن ثقيلاً على ما تبقى من العهد الرئاسي الذي سيواجه تحديات كبرى بعد الخروج النهائي لروسيف. أهم تلك التحديات ستكون التصفيات داخل أحزاب المعارضة بعد تسلمها السلطة بشكل كامل. وبدأت المؤشرات على تلك المواجهة المرتقبة بالظهور، إذ نشرت مجلة «فيجا»، المقربة من المعارضة، تحقيقاً يكشف تورط تامر في رشى بلغت قيمتها عشرة ملايين دولار، قدمتها شركة «أوديريشت» إلى الحركة الديموقراطية بأوامر من تامر نفسه. وسيفتح ذلك الباب مجدداً أمام الصراع السياسي الذي سيأخذ أبعاداً مختلفة عن المواجهة السابقة.
أمام هذا الواقع، يسارع تامر إلى استثمار ما أسماه الإنجازات القياسية خلال توليه الرئاسة بالوكالة على مدى ستة أشهر، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي، حيث رفع قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار، وفتح قنوات حوار مع رجال الأعمال، واعداً بخطة شاملة للإصلاح. أكسب ذلك تامر دعماً واسعاً داخل هذا الأوساط التي باتت تبحث عن حلول جدية للركود الذي أصاب الاقتصاد جراء الأزمات المتتالية. ولم يتوان تامر عن استثمار حتى نجاح بلاده باستضافة الألعاب الأولمبية، ملقياً في الوقت نفسه على العماليين مسؤولية الإنفاق الزائد، وما يشوب هذه المناسبة من ثغرات على صعيد المنشآت والتجهيزات. ويحاول تامر بذلك تثبيت رئاسته على مدى سنتين ونصف، ومقارعة خصومه الذين باتوا يخشون تراجعه عن وعده لهم بإتمام فترة الحكم وعدم الترشح لفترة رئاسية ثانية.
يبدو أن جميع الأطراف بدأ التحضير لمرحلة ما بعد روسيف، حيث من المتوقع أن تأخذ المواجهة أبعاداً مختلفة، ستؤدي بالضرورة إلى إنشاء تحالفات سياسية جديدة، قد لا يكون العماليون بعيدين عنها. فالأخيرون باتوا يتحسسون وجود مشروع حقيقي لإقصائهم عن الحياة السياسية تماماً؛ وهم بالتالي سيعمدون إلى استغلال التباعد السياسي المقبل بين أطراف المعارضة لإعادة نسج قوة حقيقية تمكّنهم، بالإضافة إلى رصيد الرئيس العمالي السابق لولا دا سيلفا، من استعادة الحكم. لكن طموح العماليين قد لا يتحقق إلا بمشروع سياسي داخلي مختلف، يتفادى الإخفاقات التي أدت إلى تراجع شعبيتهم بشكل حاد. أما «الحركة الديموقراطية» التي يرأسها تامر، وهي صاحبة «الفضل» في تنحية العماليين عن السلطة، فقد بدأت بالفعل جردة حساب، بعد خروجها من تحالفها التاريخي مع اليسار، وانعدام الثقة مع اليمين المعارض الذي استفاد من انقلاب الحركة مقابل تأييد مؤقت ومحدد؛ وهذه الحسابات ستأخذ بالحركة، بالضرورة، إلى لعبة خلط الأوراق، عبر تحالفات جديدة ستجعل من المشهد السياسي أكثر تشتتاً، وستؤدي حتماً إلى أزمة حكم لا يحلها غير ولادة تيارات سياسية جديدة من رحم المعاناة البرازيلية المتنقلة من السيئ إلى الأسوأ.