لم يكن الأولمبياد ليمرّ دون أن يصاب بشظايا الصراع السياسي في بلد يعجّ بالأزمات على اختلافها. البرازيل ــ عضو مجموعة دول «البريكس» الصاعدة ــ تسعى إلى تثبيت استقرارها ولا سيّما بعد بوادر التغيير في النهج الاقتصادي نحو التماهي مع المؤسسات الدولية التي تدور في الفلك الأميركي. ضمن هذا الإطار، تستمرّ الألعاب الأولمبية على وقع احتجاجات شعبيّة متوقّعة، تضمّ أطيافاً متنوعةً من المعارضة؛ أبرزها: الأحزاب اليسارية ومناصرو الرئيسة «المجمّدة» ديلما روسيف ومنظّمات شبابية وطلابية وجمعيات بيئية ونقابات عمّالية وجماعات من السكان الأصليين ومدافعون عن حقوق المثليين. تنوعٌ يجب أن يستثمر لتوحيد صفوف المعارضة ولا سيّما من قبل حزب «العمّال الاشتراكي» برأي العديد من المعنيين. وتركّز الاحتجاجات على التكلفة الباهظة التي تكبّدتها الدولة لاستضافة هذا الحدث العالمي، إذ فاقت النفقات ما كان مخططاً وفق الميزانية الرئيسية بنسبة 5%، في بلدٍ يعاني من ركود اقتصادي هو الأقسى منذ زمن طويل. كما يرى المحتجّون أن الأولمبياد هو مكان للنخب والأجانب، في ظل عدم استطاعة المواطن العادي دفع تكلفة تذكرة لتشجيع ممثلي بلده المضيف.
تم إخلاء 17000 شخص من مساكنهم في ريو

التظاهرات التي شارك فيها عشرات الآلاف ضمن العديد من المناطق، واجهتها الشرطة بالقمع والاعتقالات وإطلاق الغازات المسيّلة للدموع، لتفريق المحتجّين الذي تجمهروا في الشوارع المؤدية إلى الملاعب، على مرأى من السيّاح الذين تراوحت آراؤهم بين مؤيّد لحق التظاهر وداعٍ إلى فصل الرياضة عن السياسة. وكانت المسيرة الأكبر في يوم الافتتاح الرسمي ضمن منطقة كوباكابانا، وضمّت ستة آلاف شخص في مسيرة فولكلورية، ارتدى خلالها المشاركون أزياء تنكرية تجسّد جشع المصارف و«الأوليغارشية» الحاكمة. ويمكن القول إن تشييد البنى التحتية الخاصة بالأولمبياد تمّ على نفقة المواطنين، ولا سيما موظفي القطاع العام والعمال الفقراء، وعلى حساب خزينة الدولة العامة، ما جعل البلاد عرضة لتنامي العجز المالي، وهو ما قد يجرّ السلطات إلى إقرار إجراءات اقتصادية تضر بمصالح الطبقة الفقيرة والمتوسّطة. إذ قلّصت الحكومة التقديمات الاجتماعية الممنوحة للموظفين في القطاع العام، كما امتنعت عن دفع رواتب فئات عدّة، فتشكّلت نتيجة لذلك حركة مطلبية عمادها أساتذة التعليم في المدارس الرسمية الذين لم يقبضوا رواتبهم منذ أشهر. وتبقى المصارف المستثمرة وشركات البناء وشركات العقارات والقطاع الخاص هي الرابح الأكبر من الحدث. وبالتوازي مع تسريح عدد كبير من عمّال القطاع الخاص، فقد شهدت أعمال بناء منشآت الأولمبياد انتهاكات فاضحة لحقوق العمّال، كان أبرزها ما تمّ كشفه في آب من العام 2011، عن وجود عمال يسكنون في ظروف وصفها آنذاك المدعون العامّون بالعبودية، وحمّلت حينها كل من «محكمة العمل العليا» ووزارة العمل، المسؤولية للشركة المقاولة وهي «Brazil global services». فضلاً عن ذلك، وظّف حاكم ريو دي جانيرو، إدوارد بايس، شرطة البلدية لقمع المتسولين والباعة المتجولين في الأحياء المحيطة بملعب «الماكارانا». أمّا الحدث الأكثر مأسوية فكان اتّباع الحكومة المحلية سياسة الإخلاء والهدم بالقوة، ضد منازل عشرات آلاف الفقراء المقيمين في ما يعرف بالـ«favelas» (العشوائيات) والتي تعتبر التمظهر الأبرز للتفاوت الطبقي. فقد أخلت الحكومة المحلية 17000 شخص من منازلهم منذ عام 2009، فيما صنّفت كأكبر عملية هدم في تاريخ مدينة «ريو»، حيث أزيل «Metro Mangueira Favela» الشهير، لكونه يقع على مسافة تقلّ عن كيلومتر واحد عن ملعب «الماراكانا»، كذلك أزيلت The Vila» Autodrama» المعروفة بأنها «الفافيلا» الأقل عنفاً واستهلاكاً للمخدّرات.

المدرجات الصاخبة تشعل جدلاً قانونياً

لم تقتصر الاحتجاجات هذه المرّة على الشوارع المحيطة بالملاعب الأولمبية، بل فرضت الشعارات السياسية نفسها على المدرّجات، فحضرت اللافتات وارتدى بعض المشجّعين قمصاناً تحمل أحرفاً منفردة تشكّل مجتمعة عبارة «Fora Temer»، فيما هتف البعض الآخر «عودي يا ديموقراطية». إرادة المحتجّين في كسر احتكار «اللجنة الدولية للأولمبياد» لصورة الحدث أثارت جدلاً قانونياً في البلاد، حيث رأى مسؤول التواصل في «اللجنة»، ماريو آردرادا، أنّ الهتافات السياسية تشتّت تركيز المتبارين و«شرعة الأولمبياد تمنع الترويج السياسي تحت طائلة الطرد»، مضيفاً أنّ المنع يقتصر على اللافتات والشعارات السياسية ولا يشمل صيحات الاستهجان وإلّا «لكان أفرغ الماراكانا»، في إشارة إلى صيحات الاستهجان التي رافقت دخول الرئيس تامر إلى الملعب ليلة الافتتاح. يأتي ذلك بعد تداول مقاطع فيديو تظهر قيام عناصر الأمن بطرد مشجّعين بعنف من الملعب بعد ترديدهم شعار «ارحل تامر»، كما طلب من آخرين تسليم اللافتات أو المغادرة. ودفعت تلك الأحداث إلى الواجهة جدلاً حول حرية الرأي والتعبير في البرازيل، تناولته معظم الصحف الدولية، فضلاً عن النقاش المحلي حول دستورية هذا المنع وقانونيته، إذ اعترض عدد من المحامين والمدعين العامين السابقين والحاليين على عدم دستورية هذه الإجراءات، معتبرين أنّ الدستور هو السلطة الأعلى ولا يستطيع أي قانون سار على الأراضي البرازيلية أن يتعارض معه، ورأى رئيس المحكمة البرازيلية العليا السابق، ايرس بريتو، أنّه «لا يوجد أي قانون محلي يسمح بطرد مشجع لتصريح سياسي». هذا الجدل حسمته «المحكمة الفدرالية العليا» بقرارها القاضي بـ«منع قمع المظاهر الاحتجاجية ذات الطبيعة السياسية في أماكن المباريات الرسمية لعام 2016 تحت طائلة التغريم». في المحصّلة، أظهر البرازيليون الطابع الشعبي للرياضة، مخترقين «تجمع النخب والأجانب» على طريقتهم، ومن خلال الاحتجاجات أو الحماسة في المباريات الرياضية، كما يُنتظر أن تستمرّ التظاهرات بعد تصويت مجلس الشيوخ على إحالة الرئيسة ديلما روسيف إلى المحاكمة، ليبقى السؤال المطروح اليوم: هل ربحت الدولة الأولمبياد وخسرت الشعب؟