تيريزا ماي، ليست محظوظة أبداً. فهي تولت رئاسة وزراء المملكة المتحدة في ما يبدو أنه أسوأ وقت في تاريخ البلاد منذ "أزمة السويس ١٩٥٦". التوقيت نفسه ليس المشكلة بالطبع، إذ كثيراً ما تكون الأزمات فرصاً للقادة الأقوياء لعمل شيء يدخلهم التاريخ. لكن المشكلة هي أن ماي تسلمت المنصب التنفيذي الأرفع في البلاد، وهي لا تتمتع بشرعية انتخاب مباشر تمنحها الصلاحية الأدبية لاتخاذ قرارات مهمة لمواجهة التحديات العاصفة، والأسوأ أن حزبها (حزب المحافظين) منقسم على نفسه منذ إجراء الاستفتاء الأخير.خليفة ديفيد كاميرون هي نائبة أصلاً عن "المحافظين"، وهي نظريّاً انتخبت مباشرة من أقل من ١٪ من الشعب البريطاني، كذلك فإنها لا تتمتع بدعم كامل داخل حزبها، وبالتالي فإنها وإن حصلت على دعم البرلمان قبل أيام لتجديد الإنفاق على القوة النووية البريطانية، فإنها تعلم أنها لن تحصل بالضرورة على نفس مستوى الدعم عند التصويت على قضايا تثير انقسام الشارع البريطاني.
الأزمة البريطانية في تصاعد، رغم كل محاولات الظهور برباطة الجأش التي تجيدها ماي ذات الملامح القاسية، ورغم الرحلات المكوكية الخارجية المكثفة التي قامت بها بعد أيام من توليها المنصب. برلين، وإن أظهرت هدوءاً وتفهماً للضغوط على بريطانيا، فهي لم تعد ماي بأي شيء لتسهيل عملية الطلاق. وباريس كانت أقل دبلوماسية، وقالت ما أرادت أن تقوله برلين لجهة ضرورة حسم الأمور بسرعة. أما في غلاسكو وبلفاست، فبرغم الأجواء الإيجابية المزعومة، كان الجميع قادراً على أن يقرأ النار التي تستعر تحت الرماد في العاصمتين الإقليميتين اللتين تعانيان من تصاعد حمى الاستقلال عن المملكة المتحدة بحجة البقاء في الاتحاد الأوروبي.
الأسبوع الماضي شهد تصاعداً غير مألوف لحراكات الشوارع في بريطانيا. وبرغم أنّ الأسباب مختلفة، فإنّ ما أثار قلق ماي بالتأكيد هو انخراط قطاعات واسعة من الشباب البريطانيين فيها، وبشكل غير مسبوق. في غلاسكو تظاهر عدة آلاف يحملون أعلام أسكتلندا الزرقاء في جورج سكوير، فبدوا كبحر أزرق هائج مطالبين بتسريع إجراء استفتاء على الاستقلال عن المملكة المتحدة، وهو ما قد لا يترك مجالاً أمام رئيسة وزراء إسكتلندا، نيكولا ستورجن، سوى النزول عند رغبة الشارع أو المخاطرة بفقدان الدعم الشعبي. والأخيرة صرحت قبل أيام بأن "الاستقلال يجب أن يكون أحد الخيارات الممكنة لحماية مصالح اسكتلندا".
لعل أصعب ما تواجهه تيريزا ماي يتمثّل بالوضع الاقتصادي المتهاوي

في يورك، عاصمة الشمال البريطاني، وأيضاً في ليدز وليفربول، وهي مدن إنكليزية تقليدية محافظة، لم يصدق الناس أنفسهم وهم يرون الألوف من المواطنين، وبخاصة الشباب يتحلقون حول زعيم "حزب العمال" المعارض، جيريمي كوربن، الذي كلما تعرض لضغوط أكبر بهدف التخلص منه من قبل اليمين، في داخل حزبه وخارجه، تضاعفت شعبيته. وقد دعا كوربن بصراحة إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة، مشيراً إلى أن الأمور لم تعد كما كانت عليه العام الماضي، وأن البلاد بحاجة إلى إجماع جديد لإدارة التحديات. وأمس أغلق متظاهرون طرقاً رئيسة في البلاد، وعطّلوا السير إلى مطاري هيثرو وبيرمنغهام، وذلك في ذكرى أعمال العنف العرقية التي اندلعت في لندن قبل خمسة أعوام، واحتجاجاً على ما سمَّوه التعامل العنصري للشرطة مع المواطنين السود.
ولعلّ أصعب ما تواجهه تيريزا ماي يتمثّل بالوضع الاقتصادي المتهاوي الذي وجدت بريطانيا نفسها فيه منذ ليلة الاستفتاء في 23 حزيران الماضي. فالجنيه الإسترليني فقد أكثر من ١٥٪ من قيمته، وهو الآن في أدنى مستوياته تقريباً منذ ٣٥ عاماً، ولم تفلح على ما يبدو محاولة بنك إنكلترا لاحتواء الموقف من خلال خفض الفائدة إلى ربع نقطة مئوية (وهو مستوى قياسي). وأطلق ذلك موجة تضخم متسارع غير مسبوقة سبّبت ارتفاع أسعار المحروقات بـ١٥٪، إلى جانب ارتفاع في أسعار المواد الأساسية الواردة للبلاد بعقود جديدة. ورغم أن موجة غلاء قوية ستضرب دون شك أسعار معظم المواد الاستهلاكية، فإن ما يؤخر ذلك فقط هو الإجراءات البيروقراطية العقيمة التي تتخذها شركات محلات التجزئة التي تتحكم بـ٨٠٪ على الأقل من السوق الاستهلاكي البريطاني. ولا شك في أنّ البريطانيين الذين بالكاد يتدبرون معيشتهم بسبب سياسات التقشف الشديد التي اعتمدتها الحكومة البريطانية منذ الأزمة المالية العالمية في عام ٢٠٠٨، سيشعرون بالصدمة وهم يشاهدون مداخيلهم تتراجع بنسبة ٢٠٪ خلال أسابيع قليلة.
من جهة أخرى، تعمل برلين وباريس، وغيرهما، بشكل مكشوف على استقطاب الشركات والبنوك الكبرى التي تتخذ من بريطانيا مقارّ لها. وتبدو باريس مرشحة في ما يبدو لتصبح مركزاً مالياً بديلاً من لندن، في حين أن برلين تريد جذب شركات التكنولوجيا ومنتجي الثقافة، ولذلك فإن "السيتي" (مركز إدارة الأعمال في لندن) ليس ممتناً بالطبع لهذه الأجواء، وربما يتحرك باتجاه فرض مزيد من الضغوط على تيريزا ماي لعمل شيء ما لوقف الأزمة.
بناءً عليه، فبعد ستة أسابيع على تولي ماي للسلطة، هي أمام تحدٍّ تاريخي كبير. يمكنها أن تقدّم المصالح الحزبيّة الضيقة وتستمر في تجاهل الضغوط وتعمل بسياسة إطفاء الحرائق مستندة إلى التفويض الشعبي الذي حصل عليه "المحافظون" في انتخابات ٢٠١٥، أو أن تُقدِم على خطوة الدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة لتحوز الشرعية الشعبية دون منازع، أو، كخيار ثالث، أن تتخلى عن السلطة لمصلحة إجماع وطني أو حكومة وحدة وطنية تكون أقدر على إدارة الملفات الصعبة. الذين يعرفون تيريزا ماي يقولون إنها "مشروع بطلة"، لكن الأبطال أحياناً قد يأتون متأخرين، خصوصاً إذا كانوا أعضاءً في حزب كان مسبّب الأزمة من حيث المبدأ.