لن يختلف عاقلان في توصيف الحادث الإرهابي المؤلم الذي استهدف العامة من المحتفلين بيوم الباستيل في مدينة نيس الفرنسية، وأودى بحياة ٨٤ شخصاً ــ على الأقل ــ من جنسيات وأديان وأعمار متعددة، بأنه هجوم دنيء، منافٍ لكل منطق، وموت مجاني غير مستحق للأبرياء. لكن هذا الهجوم يجب أن يثير الاهتمام على مستوى آخر ومختلف، ربما لشكل الحادث أولاً، ولشخصيات مرتكبيه ثانياً.السلطات الفرنسية، ومن ورائها الحكومات الأوروبية الأخرى، حصلت على دعم غير مسبوق وتفهم من صحافتها المحلية ــ على عكس المألوف عادة في حوادث الإرهاب ــ بشأن استحالة توقع هجوم على هذه الشاكلة، مهما كانت التحذيرات المسبقة. فهناك آلاف الشاحنات مثل تلك التي نفذ بواسطتها هجوم نيس على كل الطرق الأوروبية، وهناك عشرات الحوادث يومياً قد تتسبب فيها هذه الشاحنات من دون أن تكون جزءاً من مخطط إرهابي، وهناك نشاطات عامة وشوارع مكتظة في كل مدينة.
هكذا أخذنا داعش إلى مستوى أعلى من التهديدات الإرهابية لم يعد فيها ممكناً توقع أين ستقع الضربة الهائلة المقبلة، لأن سياق الهجمات ما عاد متّسقاً، بل هو متطور ومنفتح على احتمالات متصاعدة تجعل كل شيء في النطاق العام (تاركاً لنا مطلق الخيال) مرشحاً لأن يتحول في لحظة جنون إلى مأساة أخرى.
الخطر لم يعد سيارة مفخخة، بل الخطر هو السيارة نفسها، وهكذا. والأخطر أيضاً هو التحول الذي طرأ على نوعية الجنود الذين يلقي بهم «داعش» في المعركة. لم يعد المنفذون بالضرورة «إسلاميين»، بل هم الآن مجرمون تافهون من النوع الذي لا يثير شبهات إرهابية لدى أجهزة الاستخبارات، وإن كانوا معروفين لدى دوائر الشرطة في جرائم سرقة أو اغتصاب أو اعتداء.
بعض هؤلاء يعيشون على أقصى حدود اليأس البشري ويعانون في المجتمعات الأوروبية أزمات وجودية وثقافية عميقة فوق أزمات النظام الرأسمالي الشاملة، وهم بالإدارة الذكية وربما ببعض العقاقير المتطورة قادرون على التضحية بحياتهم في عمليات استعراضية تستهلك حياة أكبر عدد من الأبرياء.
«بطل» هجوم نيس (إذا جاز التعبير) كان لديه سجل عدلي حافل لدى الدرك الفرنسي: عنف وسرقات وجرائم صغيرة، وقد حكم عليه بالسجن ستة أشهر لاعتداء بسبب خلاف على أولوية المرور، لكنه لم يظهر على لوائح الاستخبارات كإرهابي محتمل مطلقاً. ووفق الشهود الذين عرفوه شخصياً، لم يعرف عنه التدين مطلقاً، بل نقل عن ابن عم له القول إنه لم يكن يذهب إلى المسجد أو يصلي أو يصوم رمضان. على العكس، كان يتناول الكحول ويتعاطى المخدرات ويأكل لحم الخنزير، كما تحدث الجيران عن تناوله الطعام علناً في شهر رمضان، ولدى الشرطة سجل عنه بالمشاركة في شجار للسكارى خارج أحد البارات!
رغم أن تقارير صحافية ذكرت أن بعض أقربائه في تونس تورطوا في منظمات إسلامية متطرفة أثناء حكم بن علي، وأن «داعش» وصفه بالمجاهد و«جندي من جنود الخلافة»، فإن هاتفه احتوى دلائل حاسمة على أنه كان يزور مواقع تعارف يلتقي فيها عشاقاً من الجنسين، وأنه كان يتردد على مراقص ونوادٍ مشبوهة. وقد عُلم أن الشاب، شبه المفلس دائماً، حوّل قبل الهجوم بقليل ما يعادل ٨٤ ألف دولار أميركي إلى تونس.
إذن، تغيّر «البروفايل» لـ«جنود الخلافة» الذين يرسلون في مهمات إجرامية في أوروبا: هم ليسوا متدينين بالضرورة، وعلى الأغلب غير ملتحين، بل أفراد من حثالة المجتمعات المهمشين الذين تورطوا في جرائم وأعمال عنف ولم يعد ممكناً لهم الاندماج في مجتمعاتهم، وليس لديهم ما يخسرونه. من ثم، عبر الإنترنت والمال والعقاقير والتوق النفسي المكبوت، يمكن بسهولة السيطرة على أمثالهم، ثم إرسالهم إلى حتفهم مع أكبر ضجة ممكنة. عدد هؤلاء كبير في إطار الجاليات الإسلامية في أوروبا، وكثيرون منهم لم يقبض البوليس عليهم بعد، ويحظون للأسف بتعاطف المتدينين السطحيين في معازلهم العرقية.
المأساة أن الأوروبيين العاديين يوجهون جلّ غضبهم جراء هذه الاعتداءات الوحشية على الإسلام واللاجئين وجيرانهم الفقراء المستهدفين مثلهم من سكان الضواحي المهمشة للحواضر الأوروبية. وهكذا لا يصل اللوم المستحق إلى الحكومات، التي هي شريكة كاملة في هذه الجرائم ضد الإنسانية.
ينبغي للأوروبيين أن يعرفوا أن مزيداً من الموت الفوضوي سيطرق أبوابهم غداً أو بعد غد، بسبب تعاون حكوماتهم التي انتخبوها مع منظمات الإرهاب في سوريا والعراق، وذلك في إطار مظلة الحرب الأميركية على سوريا، وقبلها في غزو العراق وإسقاط نظامه.
حتى لو سلّمنا أن «داعش وأخواته» لم تخرج من مختبرات المخابرات المركزية الأميركية ــ وهو أمر لا يحتاج إلى كثير من الإثباتات الجديدة ــ فإن الاحتلال الظالم نفسه هو الذي خلق الإرهاب في الشرق الأوسط، كما يقول تقرير شيلكوت الأخير عن الحرب على العراق، والتقارير الدبلوماسية المتكررة الصادرة عن وزارات الخارجية الأوروبية. ولا شك في أن شحن المزيد من الأسلحة إلى دول الخليج ودعم الأتراك وجيران سوريا لغض النظر عن «تسرب المجاهدين» إلى بلاد الشام، لا يساعدان أبداً في منع حدوث مزيد من العمليات الإرهابية المفجعة على البر الأوروبي.
هو وحش فرانكشتاين الجديد الذي خلقه الثنائي بوش ــ بلير. لكن الحكومات الأوروبية الحالية هي التي تقدم له مزيداً من دماء الضحايا ليستمر بالقتل والترويع والتخريب. عدوّكم ــ أيها الأوروبيون ــ ليس «داعش» في الدرجة الأولى؛ إنه هناك في الطبقة المهيمنة على السُلطة.