قبل ثلاث سنوات، كنت أجلس مع صديقي العربي عبد الرحمن، وزوجته أليساندرا، في إحدى ساحات مدينة لوفان في بلجيكا، وهي مدينةٌ صغيرةٌ قرب بروكسل، وفيها إحدى أعرق الجامعات الأوروبية. كنا نتحدثُ عن العمارة في وسط أوروبا وكيف تختلفُ عن العمارة في بريطانيا: الطرقُ المستقيمةُ والساحاتُ التي تلفّها الحانات والمطاعم... وكيف أنه برغم كل شيء، اختلاف المدن وملامح الناس ولغاتهم وطُرُق عيشهم وأشكال بيوتهم وحتى أنواع الجُبن والنبيذ الذي يصنعونه، استطاعت أوروبا أن تتجاوز ماضياً طويلاً من الحروب التي لم تتوقف إلا حين اكتوى بلظاها العالمُ بأسره، بل عاشت شعوبُها سنين من التقشف والخوف، لتبني لها حاضراً مشتركاً تتقاسمه شعوبُها ومستقبلاً واضحاً لا ضباب فيه. أما اليوم، فاستيقظتُ على رسالةٍ من كونستانتين، صديقُ دراستي الذي يعيشُ الآن في زيوريخ، يقولُ فيها: "England is cut off"، تندُّراً على ما يُقالُ إنه كان يوماً عنوان أحد الصحف البريطانية "Fog in Channel Continent Cut off"، أي إن القارة الأوروبيةَ متروكةٌ وحدَها بسبب ضبابٍ في القنال الإنكليزي. صارت هذه العبارة تعبيراً عن علاقة بريطانيا ببقية أوروبا، هذه العلاقة التي ربما بدأت عند قدوم الرومان إلى الجزيرة البريطانية وبنائهم لندينيوم عام ثلاثةٍ وأربعين للميلاد، ولم تنتهِ بانتفاضة بوديكا، ملكة قبائل آيسيناي، وإحراقها المستعمرة الرومانية، قبل أن تسمّم نفسها خشيةَ أن يُلقى القبضُ عليها. حدث هذا قبل نحو ألفي سنة من الآن.
اليوم يبدو أن بريطانيا تنتفضُ على أوروبا مرةً أخرى. لكن الأمر الذي يشغلني هنا، هو كيف أنّ من السهل علينا، نحن البشر، أن نقتنع بأننا سنكون في حالٍ أفضل وحدنا، إن تخلينا عما نظنه أعباءنا، الاقتصادية منها والاجتماعية وربما حتى العاطفية، فهذا السلوك ينسحبُ على جوانبَ مختلفةٍ من حياتنا، إذ إنّ من المُريح للإنسان حين تدلهمُّ به الخطوب أن يلقي باللوم على الآخرين، فيُغني نفسَه عن الحاجة أن يُسائلها، بل ويزيد اعتدادُه بها، وتعلو صيحاتُ الأنا لديه.
هذا، وبكل أسىً، ما أحسن استغلاله الساسةُ الذين يقودون بريطانيا هذه الأيام، إذ أقنعوا الناس، وبطرقٍ مختلفة، أن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تُواجهها البلاد لا تسببُها سياسات الحكومة القائمة على خفض الإنفاق على قطاعاتٍ رئيسيةٍ مثل الصحة والتعليم، بل في الأعباء الاقتصادية التي تترتبُ على وجود بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، وأن أسباب البطالة لا تتمثلُ في إهمال المؤسسات التعليمية ومؤسسات التدريب المهني أو في استنزاف القطاعات الإنتاجية لبناء سوقٍ مبنيٍّ على الخدمات وحسب، بل في المهاجرين الأوروبيين الذين يقدمون للعمل في المملكة المتحدة، وهم كُثرٌ بالتأكيد.
لكن أحداً لم يستطع أن يمنح الناس إجابةً واضحةً ومباشرةً عن الأثر الاقتصادي، الإيجابي أو السلبي، لارتباط الإمبراطورية التي كانت يوماً لا تغيب عنها الشمس بالقارة العجوز، بل اكتفى الداعون إلى الخروج بأن يقولوا للناس "فكر بنفسك، الآخرون هم السبب، تخلص من كل أعبائك وكن حراً". هذا الأمر كان كفيلاً بأن يدفع أكثر ملايين الناس إلى أن يُعلوا أصواتهم ويطلبوا البقاء وحدهم.
لا أعرف تحديداً كيف سيؤثرُ الخروج من الاتحاد الأوروبي بالاقتصاد في بريطانيا بصورةٍ إيجابية أو سلبية، لكنني أعرفُ أن نذيراً أولى بالوجل من كل هذا، نزعةُ الناس إلى التخلي، كأولِ حلٍّ يلجأون إليه في اللحظات الحاسمة، واستغلال القادة هذه النزعة ليحققوا مساعيهم التي نجهل منها أكثر مما نعرف. وإن كُنا نعرفُ أن فكرة الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي ما كانت إلا جزرةً ألقاها رئيس الوزراء الحالي للناخبين قبل ثلاث سنوات ليكسب أصوات دعاة الخروج من الاتحاد ويضمن إعادة انتخابه، ونعرفُ أيضاً أن معركةً ما تدور داخل الحزب الحاكم، كانت نتيجةُ الاستفتاء هي الحاسمة فيها.
رغم أن نتيجة الاستفتاء غير مُلزمةٍ قانونياً، ويمكن الحكومة البريطانية بكل بساطةٍ أن تتجاهلها تماماً، وأنه حتى في حال طلب الحكومة الخروج من الاتحاد بصورةٍ رسمية، فإن الأمر سيستغرقُ سنتين أو ثلاث سنوات من المفاوضات يمكنُ أن تنتهي ببقاء بريطانيا داخل الاتحاد وفق شُروطٍ أفضل، أو شروطٍ يجري تصويرها للناس على أنها أفضل، لكنه لا يمكنُ تجاهلُ أن قادة هذا البلد قرروا أن يقامروا بتاريخه ومستقبله في سبيل دورةٍ برلمانية ثانية أو لحسم معركةٍ بين رجلين قويين في الحزب الحاكم.
هؤلاء القادة الذين لم يذوقوا طعم الحروب التي سبقت نشوء الاتحاد الأوروبي، لن يكون بإمكانهم أن يتحملوا مسؤولية هذا البلد الذي شكل لمدة طويلةٍ معالم أرجاءٍ عديدةٍ من هذا العالم (وفي هذا خطيئته الأكبر بالتأكيد)، ما يجعلُ هذا الوقت حاسماً تستعرُ فيه الحاجةُ إلى قيادةٍ قادرةٍ على الوفاء بآمال الشعب، وعلى لعب دورٍ أفضل في هذا العالم الذي تنتفضُ فيه الأزمات، دورٍ يمحو خطايا الإمبراطورية التي لا تغيبُ عنها الشمس.