يمثّل الإنتاج الثقافي البريطاني بكافة أشكاله مصدر دخل مهم للبلاد، ومشغلاً لملايين العاملين في قطاعاته المختلفة. بريطانيا تنتج مثلاً واحدة من كل ست إسطوانات موسيقية تصدر في العالم، وتطبع لندن كتباً أكثر من أي عاصمة أخرى، ويكاد الممثلون البريطانيون مع زملائهم الأميركيين، يحتكرون نجومية مسلسلات وأفلام هوليوود التي تهيمن على (الصورة) عبر الكوكب. أكثرية ساحقة من العاملين في هذا المجال أظهرت دعمها اللامحدود للمعسكر الداعي إلى بقاء المملكة المتحدة عضواً في الاتحاد الأوروبي بقيادة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، في وقت انقسمت فيه آراء البريطانيين العاديين بنسب متقاربة بين مؤيد ومعارض.ويبدو أن العقول القائمة على معسكر الداعين إلى البقاء في الاتحاد الأوروبي قد وضعت استراتيجية محكمة للاستفادة من التأثير الإيجابي المحتمل الذي قد يقدمه هؤلاء المبدعون على اتجاهات التصويت لدى الطبقات الشعبية البريطانية التي بدا وكأنها فقدت كل ثقة لها ــ نتيجة الأزمة المالية العالمية ــ بالبيروقراطيات والبنوك والمؤسسات المالية العالمية، وأصبحت بحاجة إلى توكيدات من وجوه لا تزال تحتفظ بشيء من المحبة والتقدير في ذهن رجل الشارع. وهكذا قللت الحملة مثلاً من ظهور حاكم بنك إنكلترا (المركزي) وتجاوزت بسرعة تحذيرات رئيسة صندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد، فيما دفعت بالأسماء المبدعة من الوزن الثقيل إلى الميدان. وهكذا نشرت صحيفة "ديلي تليغراف" المؤيدة للمحافظين رسالة ــ قبل شهر تقريباً ــ وقّعها نحو ٣٠٠ من نجوم التمثيل والأدباء والموسيقيين والفنانين يعربون فيها عن قلقهم الشديد من احتمال خروج بريطانيا "لأن ذلك سيجعل من المملكة المتحدة على هامش أوروبا، وسيكون بمثابة قفزة في المجهول لملايين العاملين في قطاعات الثقافة البريطانية وجمهورهم عبر العالم أجمع". كتيبة الموقعين على الرسالة بدت كأنها فرقة قوات خاصة ذهبية، شكلت من أفضل الوجه المعروفة شعبياً: بنيديكت كمبرباتش (بطل مسلسل شيرلوك هولمز)، باتريك ستيوارت (أحد الأبطال الخارقين في X-Men)، جود لوو (الممثل البريطاني المعروف)، جون لا كاري (الروائي الأكثر مبيعاً)، فيفيان ويستوود (مصممة الأزياء الأشهر في المملكة)، داني بويل (المخرج السينمائي المعروف)، بالوما فييث (المغنية الشعبية)، إضافة إلى عشرات غيرهم من الأسماء المتداولة في كل بيت بريطاني تقريباً.
وُضعت استراتيجية للاستفادة من التأثير الذي يقدمه هؤلاء المبدعون

رئيس الوزراء جال بعدها برفقة ثلة من هؤلاء النجوم في استوديوهات "آبيي روود" في لندن، حيث سجلت أغاني "البيتلز" البريطانية في ما مضى، واستغل الأضواء لإرسال تحذيرات إلى مواطنيه من مغبة ترك الاتحاد الأوروبي والنتائج السلبية التي قد تعود على اقتصاد البلاد.
بعد ذلك، انطلقت حملة منسقة لإشغال الجمهور بتصريحات شخصية لنجومه المحبوبين بمعدل نجم كل يومين: ديفيد باكهام (نجم كرة القدم المعروف الذي أجرى لقاءً تلفزيونياً حضّ فيه جمهوره على البقاء)، إجي كيه رولينغ (الروائية الأكثر مبيعاً في تاريخ العالم ومؤلفة سلسلة هاري بوتر، وهي كتبت رسالة طويلة على موقعها الخاص وأطلقت عدة تغريدات على تويتر تناشد فيه متابعيها أن لا ينجروا وراء التهويلات، والإصرار على البقاء ضمن الأسرة الأوروبية الواحدة)، ثم هيلاري مانتل (سيدة الرواية التاريخية البريطانية، وهي نشرت مقابلة مهمة مع مجلة دير شبيغل الألمانية أيدت فيه بقاء المملكة ضمن الاتحاد).
لم يخل الأمر مع ذلك من بضعة مبدعين اختاروا المعسكر الآخر الداعي إلى المغادرة، ولعلّ أبرزهم على الإطلاق كان مايكل دوبز الذي كان وراء النسخة البريطانية الأصلية من مسلسل "هاوس أوف كاردز" (بيت من ورق)، وقد نُقل عنه قوله: "إن نجاح الصناعة المبدعة في بريطانيا يعود إلى المواهب البريطانية وثقافة الشعب البريطاني ذاته وليس لذلك أي علاقة مع الاتحاد الأوروبي... وإنّ الاتحاد الأوروبي حلم فشل، وآن الأوان لتجاوزه إلى شيء آخر". وبدا دوبز ساخراً من رسالة المبدعين في "ذي تليغراف"، التي قالوا فيها إنّ "معظم المشاريع الإبداعية البريطانية لم تكن لتوجد دون الدعم المالي من الاتحاد الأوروبي أو دون التعاون مع نظرائنا على البر الأوروبي". وهو لم يكن وحيداً في سخريته تلك، بل شاركه فيها سايمون جينكيز (الصحافي المعروف)، الذي على الرغم من تأييده لبقاء بريطانيا في الاتحاد لأسباب سياسية لا اقتصادية تتعلق وفق وجهة نظره بتحقيق التوازن مع ألمانيا، فإنه عاب على المبدعين إنحيازهم السافر إلى التمويل الآتي من بروكسل، معتبراً أن ما قالوه في رسالتهم "إنما يثبت أن الناس عندما تنتخب تفكر بجيوبها لا بعقولها".
الوضع كان مختلفاً على جبهة المؤرخين البريطانيين، وهم نظرياً الأقدر على تقديم منظور أوسع مدى للعلاقات البريطانية مع أوروبا والاتحاد الأوروبي. فقد انقسم هؤلاء كما عامة المواطنين في معسكرين متناقضين: المجموعة الداعية إلى الخروج نظمت نفسها في حراك جماعي سمّوه "مؤرخون من أجل بريطانيا" وأطلقوا موقعاً لهم على الإنترنت بنفس الاسم، استناداً إلى قائمة مؤثرة من الأعضاء: أندرو روبرتس، ديفيد ستاركي، تشارلز مور (كاتب سيرة حياة مارغريت تاتشر)، وغيرهم العشرات من الأسماء المعروفة في الأكاديميا والصحافة. في مقابل هؤلاء، تجمع معسكر مضاد أعلن أن أكثر من ثلاثمئة من المؤرخين، وعلى رأسهم سايمون شاما وإيان كيرشو، يؤيدون بقاء المملكة في الاتحاد الأوروبي، وقد نشروا من أجل ذلك رسالة مفتوحة للعموم دعوهم فيها إلى التصويت بكثافة للبقاء، وقد دعي بعضهم إلى المشاركة في برنامج احتفالي خاص لدعم حملة البقاء أقيم في ١٠ داونينغ ستريت، حيث مقر رئاسة الوزراء، نظمه وزير المال البريطاني، جورج أوزبورن، الذي يحمل شهادة جامعية في التاريخ.
العلماء بدورهم انقسموا أيضاً بين معسكرين متناقضين: ففي مقابل رسالة التأييد المفتوحة للبقاء التي وقعها أشهر علماء بريطانيا، ومنهم ستيفن هاوكينغ، ومارتن رييز، فقد دعا تجمّع أطلق على نفسه اسم "علماء من أجل بريطانيا" إلى التصويت على الخروج.





"خلق الطرفان لنا تنانين"

لعلّ الروائية جيه كيه رولينغ عبّرت أكثر من غيرها عن هذا الاستقطاب الهائل الذي يعيشه الشعب البريطاني، وذلك في رسالتها الخاصة عن الاستفتاء. كتبت تقول: "لقد خلق لنا الطرفان تنانين لإخافتنا مما قد يحصل غداً إذا صوتنا بالطريقة الخطأ. اليوم سنقرر أياً من هذه التنانين كانت حقيقية وأياً منها أوهام، وسيتحول المواطن من قارئ لقصص هذه التنانين إلى مؤلف، إذ إن نهاية القصة، سعيدة كانت أو حزينة، إنما سيكتبها المواطنون بأصواتهم في الاستفتاء".