شهدت بلجيكا إضرابات وتظاهرات واسعة النطاق، أمس، تركزت في بروكسل وفي مقاطعة والونيا الفرنكوفونية، قادتها النقابات احتجاجاً على السياسة الاقتصادية لحكومة رئيس الوزراء الليبرالي، شارل ميشال، والتعديلات التي يقوم بها، لتظهر بذلك خطوط صدع سياسي في هذا البلد المقسم أصلاً. وقد انطلقت الحركة الاحتجاجية البلجيكية رفضاً لمشاريع حكومية جديدة، أهمها تغيير سن التقاعد إلى 67 عاماً، وإصلاح نظام التقاعد والقطاع الصحي، وفرض القيود على الموظفين في القطاع العام، تضاف إليها تعديلات ضريبية مرغوبة بشكل كبير لدى الأغنياء والشركات.
من ناحية أخرى، طغت موضوعات مختلفة على المطالبات القطاعية، إذ إن عمال سكك الحدد على سبيل المثال المضربين عن العمل منذ 26 أيار يعترضون على مشروع إصلاح يطاول أيام العطل. كذلك، يضرب شرطيو السجون منذ 36 يوماً للحصول على تعييناتهم.
وقد يزيد قانون العمل الذي أطلقه الوزير كريس بيترز، المنتمي إلى «الحزب المسيحي الديموقراطي» (الفلاماني) حدة الاستياء لدى النقابات في البلاد. وقوبلت بعض البنود في المسودة الأولى من هذا القانون، الذي من المنتظر أن تخرج النسخة الأخيرة منه نهاية حزيران، بالرفض، بالأخص رفع ساعات العمل إلى 45 ساعة في الأسبوع. وحددت النقابات ثلاثة أيام للتحرك (24 حزيران، 24 أيلول، 7 تشرين الأول)، تتزامن مع عرض نص القانون للتصويت عليه في البرلمان الخريف المقبل. ويُظهر ذلك أن رئيس الحكومة الليبرالي «يريد التحرك بسرعة»، ويود أن يدخل العام الجديد «بقوة»، كما تذكر صحيفة «ميديابار» الفرنسي. وعلى غرار النموذج الفرنسي، أُطلقت عريضة: «قانون بيترز، لا شكراً!»، جمعت حتى الآن نحو 17 ألف توقيع.
تعكس هذه الإضرابات وجود استياءٍ عام في جزء البلاد الغربي

وقد لا يخرج تعديل قانون العمل البلجيكي عن إطار التطورات الحاصلة في فرنسا أيضاً حول قانون العمل، «إذ إن هذه النصوص الجديدة تعكس فلسفة مشتركة، وهي تلك التي تدافع عنها المفوضية الأوروبية»، وفق ما يشرح الاقتصادي الفرنسي، ميشال هوسون، لموقع «ميديابار»، مردفاً بأنها «وسائل مختلفة لتطبيق مشروع عام». ويظهر أن هناك ارتباطاً بين مختلف التعديلات التي يخضع لها سوق العمل في الاتحاد الأوروبي ككل، ففي إيطاليا أطلق رئيس الوزراء، ماتيو رينزي، مشروعاً جديداً لقانون العمل في البلاد، كذلك أجرى رئيس الوزراء الإسباني، ماريانو راخوي، تغييرات على سوق العمل. لكن هذا «لا يعني بالضرورة أن المفوضية الأوروبية تملي هذه الإصلاحات، بل إن الأمر خاضع لنوع من الجدلية، من الأخذ والعطاء، ولعبة ضغوط بين بروكسل والدول الأعضاء»، وفق ما يوضح هوسون.
في هذه الأثناء، ولليوم السادس على التوالي، استمر سائقو القطارات، أمس، بإضرابهم، ما عطّل حركة النقل في مقاطعة والونيا (غرب) وسبّب تأخير الرحلات في بروكسل وفي فلاندر. لكن الزخم الأكبر للإضراب ظهر أكثر في المدن الناطقة بالفرنسية، خصوصاً والونيا، حيث أكدت «الفدرالية العامة للعمل» و«الاتحاد العام للخدمات العامة» أن حراكهم «يهدف إلى إسقاط الحكومة الفدرالية». أما في فلاندر، لا يتردد النقابيون الناشطون فيها بانتقاد زملائهم في والونيا على اعتبار أن هذا الاتجاه نحو نوع من «الإضراب السياسي» غير مقبول.
وتزداد خشية البعض من أن هذه التطورات الأخيرة قد تزيد من الخلاف الموجود أصلاً في البلاد بين مختلف فئاتها. ويظهر ذلك في تصريحات السياسيين، فقد عبرت «الحركة التغييرية» الليبرالية لرئيس الحكومة عن «قلقها» من أن الإضرابات «تزيد من الصدع الموجود بين شمال البلاد وجنوبها».
أما بالنسبة إلى «التحالف الفلاماني الجديد»، صاحب المشروع الانفصالي وأحد أكبر الأحزاب في الائتلاف الحكومي، فإن «الحزب الفرنكوفوني الاشتراكي» ينوي «تخريب التطور وتدمير الوظائف»، كما غرد رئيس «التحالف»، بارت دو ويبر. ويشارك النائب عن «الحزب المسيحي الديموقراطي»، هندريك بوغارت، هذه الرؤية، بقوله: إن «التظاهرات تعرض أمننا الاجتماعي للخطر».
بالمحصلة، تعكس هذه الإضرابات دون شك «الاستياء العام» على امتداد المقاطعات الغربية في البلاد، وفق الباحث البلجيكي، مارك دو فوس، لصحيفة «الغارديان» البريطانية. وقد تضاعفت خطورة الأمر «مع وجود قوميين فلامانيين للمرة الأولى في الحكومة، ما يجعلنا أمام أكثر من معارضة واحدة من الشمال إلى الجنوب». ويبدو بذلك أن التركيبة «الاستثنائية» للحكومة قد عمقت الاختلافات الموجودة في البلاد، يشرح دو فوس، «إذ إن الخط القاسم بين الهوية الألمانية والهوية الرومانية قائم على امتداد بلجيكا: الشمال أكثر براغماتية ومشاكله مع الرأسمالية أقل، فيما جنوب البلاد أقرب إلى فرنسا وفيه نقابات لم تعقد السلام مع الرأسمالية بعد».