من منطلق أنّ الأولويّة حالياً هي لإعادة الثقة بين المصارف من أجل استقرار الأسواق الماليّة، أقرّت الولايات المتّحدة، أمس، تخصيص مبلغ 250 مليار دولار لإنعاش رساميل البنوك المتعثّرة. وهي عمليّة «تأميم جزئي» كان وزير المال هنري بولسون قد عارضها منذ 3 أسابيع فقط، ويشدّد الآن الرئيس جورج بوش على ضرورتها، متبنّياً خطاب قادة أوروبا
حسن شقراني
انطلقت الأزمة الماليّة التي تعصف بالمؤسّسات الماليّة والمصارف حول العالم من الولايات المتّحدة في آب من العام الماضي، عندما أدّى انفجار فقاعة الرهون العقاريّة إلى انكشاف النظام المالي القائم على أسس هشّة وعلى انعدام الرقابة. وانفلشت تلك الأزمة لتمسّ جميع المصارف العالميّة تقريباً التي استثمرت في الأصول الماليّة الأميركيّة المسمّمة، ما استدعى دول العالم المتقدّم والنامي إلى الاجتماع في نهاية الأسبوع الماضي لبلورة مبادرة كونيّة لمعالجتها.
ولكن رغم أنّ الانطلاق كان «أميركياً»، إلّا أنّ الحلول الأنجح تمخّضت من جهود القادة الماليّين في أوروبا. ففي محاولتها لاحتواء تدهور الأزمة عقب انهيار مصرف «LEHMAN BROTHERS»، منتصف الشهر الماضي، سعت إدارة الرئيس جورج بوش إلى بلورة خطّة قيمتها 700 مليار دولار لشراء الأوراق الماليّة المقلقة التي أحدثت أزمة الائتمان بين المصارف وأصبحت تهدّد الجوانب الحقيقيّة من الاقتصاد الأميركي. غير أنّ هذه الخطّة، ورغم التعديلات التي خضعت لها، لم تنجح في تهدئة الأسواق، إلى أنّ هبّت الحكومات الأوروبيّة، وفي طليعتها بريطانيا، لاقتراح نموذج آخر من الحلول: دعم رساميل المصارف عبر عمليّات تأميم جزئيّة.
ونجاح هذا الإجراء دفع زملاء رئيس الوزراء البريطاني، غوردن براون، في القارّة العجوز، إلى اتخاذ تدابير مماثلة، ليصل حجم أموال الإنقاذ الأوروبيّة إلى نحو 2.7 تريليون دولار، تخصّص لتأميم المصارف جزئياً وتوفير السيولة التي تحتاج إليها. وأدّت هذه التدابير، خلال اليومين الماضيين، إلى انتعاش الأسواق الماليّة في العالم أجمع (ما عدا روسيا وآيسلندا التي يبدو أنّها على شفير الإفلاس). وفي الولايات المتّحدة، للمفارقة، ارتفع مؤشّر «DOW JONES» الصناعي في بورصة «وول ستريت» بشكل قياسي، وأغلق مرتفعاً 936.42 نقطة، وهو أعلى مستوى ارتفاع منذ ثلاثينيّات القرن الماضي، وذلك بعدما كان الأسبوع الماضي قياسياً بالنسبة إلى حجم خسائره.
هذه التطوّرات أقنعت وزير الخزانة الأميركي، هنري بولسون، منذ نهاية الأسبوع الماضي، بأنّ مقاربته كانت خاطئة منذ البداية. ولذا، قام بتعديل خطّته الأساسيّة، من خلال تخصيص مبلغ 250 مليار دولار منها للمشاركة في رأس مال المصارف في البلاد، أو تأميمها جزئياً، بعدما كانت البلاد قد شهدت أكبر تأميم في التاريخ، وهو تأميم مؤسّستي الرهن العقاري «FANNIE MAE» و«FREDDIE MAC» بـ200 مليار دولار، قبل الانهيار الدراماتيكي لـ«LEHMAN BROTHERS».
وستقوم الإدارة الأميركيّة بتخصيص 125 مليار دولار من المبلغ المقترح لدعم رأس مال 9 مصارف مباشرة، ستحصل من جرّاء هذا التدبير على حصص فيها. وهو إجراء شدّد بولسون على أنّه بالرغم من كونه اختيارياً، إلا أنّ رأي المصارف لا يهمّ كثيراً في هذه المسألة. أمّا نصف المبلغ الباقي فسيكون متوافراً خلال 30 يوماً، وسيخصّص لدعم رساميل آلاف المصارف والمؤسّسات الماليّة الأخرى في البلاد.
ولكنّ الخطر لا يزال قائماً، وهو يكمن في إمكان لجوء المصارف المدعومة إلى استخدام المبلغ، لا في تحفيز الإقراض ودفع عجلة الاقتصاد الحقيقي، بل من أجل دعم موازناتها فقط، وخصوصاً أنّ الاتفاق مع وزارة الخزانة لا يتضمّن بندوداً مرغمة في هذا السياق. ولذا، يبدو أنّ رئيس الاحتياطي الفدرالي سيبذل جهوداً مضاعفة للضغط على المصارف لكي تستخدم الأموال لإقراض المؤسّسات والأفراد.
وإضافة إلى موضوع دعم الرساميل، ستقوم الهيئة الفدرالية لضمان الودائع المصرفية بضمان الديون الجديدة التي تحظى بأولويّة للمصارف لمدة ثلاث سنوات.
وكان يوم أمس قد شهد استمراراً لانتعاش مؤشّرات الأسهم حول العالم. ففي أوروبا، ارتفعت الأسهم بمعدّل بلغ 5 في المئة، بعدما أغلقت بورصة طوكيو على ارتفاع نسبته 14 في المئة. وارتفع مؤشّر «MSCI» للبورصات العالميّة بنسبة 3.8 في المئة، مسجّلاً ارتفاعاً نسبته 12 في المئة منذ بداية الأسبوع، بعد تراجع بنسبة 20 في المئة خلال الأسبوع الماضي.
وبعد الإعلان عن التدابير الأميركيّة، سجلت بورصة نيويورك ارتفاعاً كبيراً عند بدء التداولات، وارتفع مؤشّرا «DOW JONES» بنسبة 4.05 في المئة و«NASDAQ» بنسبة 2.24 في المئة.
ولكن هذا التحسّن المريح في الأسواق الماليّة، يقول الاقتصاديّون إنّه لا يحتّم انعكاساً إيجابياً على الاقتصاد الحقيقي، الذي يتوقّع أن يبدأ تأثّره بما أحدثته الأزمة، خلال العام المقبل، والبيئة الاقتصاديّة في البلدان الصناعيّة أصبحت خصبة جداً لحلول مرحلة ركود.


رفع الثقة

يشير المسؤولون الأميركيّون إلى أنّ الاحتياطي الفدرالي سيقوم قريباً بدور «الشاري الأخير الموجود» للأوراق التجاريّة وللديون القصيرة المدى للشركات، والتي تحتاج إليها الأسواق الماليّة والشركات التي تسعى للحصول على السيولة من أجل استمراريّة أعمالها. وهذه الخطوة، إضافة إلى التدابير الأخرى المتّخذة في الخطّة المستحدثة، ستؤدّي إلى «رفع ثقة الأميركيّين في النظام واستقرار (حجم) السيولة اللازمة لدعم النموّ الاقتصادي»، بحسب البيان الذي أصدرته الإدارة، للإعلان عن التأميم الجزئي للمصارف.