strong>رشا أبو زكيباتت تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP تثير عند صدورها عواصف من الانتقادات الواسعة بسبب مضامينها المنحازة، ما جعلها بمثابة ظاهرة تحتاج إلى درس، لا بل تصبح هذه الظاهرة مثيرة للاستغراب حين يكون التقرير يعالج الفساد أو مواضيع التنمية الاجتماعية أو «الأمن الإنساني»، ومن ثم يُلغِّم التقرير نفسه بعبارات متطرفة ومسيّسة وبلا مستندات حسية... هذا ما حصل أمس خلال إطلاق تقرير «التنمية الإنسانية العربية» في حفل في السرايا الحكومية، عقب إعلان المعدّ الرئيسي لتقرير التنمية الإنسانية العربية أستاذ العلوم السياسية الدكتور مصطفى كامل السيد تبرؤه من التقرير «لكونه خرج بصيغة تجامل إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية» وفق تصريح تلفزيوني للسيد.
فتقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009 يعالج موضوع «تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية». وركز التقرير على 15 محوراً عدّها من البنود الأساسية لضمان الأمن للمواطن العربي، وهي: تغيير المناخ، عدم المساواة، اللاجئون، الجوع، التلوث، الفقر، سوء التغذية، التدخل العسكري، التمييز ضد المرأة، التصحر، العنف، البطالة، ندرة المياه، أزمة الهوية والاحتلال. أما معالجة هذه البنود فجاءت بطريقة أغفلت الوقائع والبيّنات، وغلّبت طموحات معدي التقرير السياسية، وخصوصاً في ما يتعلق بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، بحيث ساوى التقرير ما بين «المحتل» و«ضحايا الاحتلال» في ما يتعلق «بتأثر كلا الطرفين بالتدخل العسكري والاحتلال من حيث إطلاق دوامة العنف والعنف المضاد في الأراضي الفلسطينية المحتلة والصومال والعراق». أما الأنكى، فهو التعرض للمقاومة الفلسطينية من منطلق «استغلال الأطفال في الحرب»، بحيث يشير التقرير إلى أن الأطفال يؤدون في لبنان والعراق والأراضي الفلسطينية المحتلة، متطوعين أو مرغمين، أدواراً إسنادية في الحرب، فيما تستمر معاناتهم من جراء النزاع المسلح في تلك المناطق»!

هكذا يكون الانحياز!

هذه المعطيات وغيرها كثير، أثارت موجة استياء وتشكيك بمضمون التقرير، فقد أشار السيد في حديث تلفزيوني إلى أن موظفي المكتب الإقليمي للأمم المتحدة تدخلوا بالتقرير عبر حذف فصل بكامله يحمل عنوان «مناقشة عربية لمفهوم الأمن الإنساني» واختزال فصل بكامله عن صراعات الهوية بالدول العربية، إلى صفحتين فقط، ما أدى إلى شبه غياب للموضوع من صفحات التقرير. وتضمنت الصيغة النهائية للتقرير، من موظفي البرنامج الإنمائي، معالجة غير متوازنة لقضية مهمة تناولها الباحثون، وهي الأمن الشخصي للأفراد في الوطن العربي. كذلك هُمِّشَت خطورة الاحتلال الغربي الأميركي والإسرائيلي لبعض الدول العربية (فلسطين، الجولان، العراق، الصومال) على أمن الإنسان العربي، وهو ما يُعَدّ مجاملة لأميركا وإسرائيل على حساب القضايا العربية، وفق السيد، الذي كشف أن بعض أعضاء الهيئة الاستشارية للتقرير كانت لديهم ميول لرفض موضوع التقرير، وهو «أمن الإنسان العربي»، بل طالب بعضهم بأن يتناول التقرير الجوانب الإيجابية للاحتلال الأميركي للعراق!
وأشار السيد إلى حذف موظفي البرنامج بعض الإسهامات المهمة لكتّاب عرب بارزين من أمثال الدكتور جورج أبي صعب ـــــ القاضي الدولي المعروف، وكان إسهامه بعنوان «التدخل الإنساني». كذلك حُذف إسهام الدكتور سمير أمين، وكان بعنوان «نقد النظام الاقتصادي العالمي الحالي»، والروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، وكان إسهامها بعنوان «رؤية للحرب الأهلية في الجزائر». كذلك حُذف إسهام طالبة عربية من تونس تمثّل إسهام الشباب العربي في التقرير، وكان إسهامها بعنوان «طبيعة القمع في دول عربية تدعي الديموقراطية»!

تناقضات دولية في دراسات عربية!

المساواة بين «المحتل» و«ضحايا الاحتلال» واتهام المقاومة بتجنيد الأطفال
هذه المواضيع حوّلت حفل إطلاق التقرير أمس إلى مسرح لتشريح التقرير والإضاءة على ضعف صدقيته، لا بل كشف عن تناقض في الدراسات والمسوحات التي تجريها المؤسسات الدولية في الدول العربية! إذ قال الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية السفير عبد الرحمن الصلح في كلمته إن تقرير التنمية الإنسانية العربية لجأ إلى التعميم والقفز إلى النتائج من دون تحليل معمق، وإطلاق الأحكام من دون سند. وعلى سبيل المثال، ما أشار إليه من أن معظم البلدان العربية لم تنجح في تحقيق العدالة في توزيع الثروة واحترام التنوع الثقافي، وهذا موقف لم يأخذ بالحقائق الموضوعية، «ولا يسعني إلا أن أستشهد بالتقرير الصادر عن البنك الدولي عام 2004، الذي لخّص فيه السمات الأساسية للعقود الاجتماعية العربية، في أنها فضلت إعادة توزيع الدخول والمساواة في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وتوفير الرفاهية والخدمات، ورؤية الساحة السياسية تعبيراً عن الوحدة العضوية للأمة، أكثر من كونها موضوعاً للخلافات السياسية أو إطاراً يجمع بين الخيارات المتعارضة».
وتابع: «من بين القضايا التي أثارت استغرابنا أن التقرير أشار إلى افتقار البلدان العربية إلى سياسات تنموية تتركز على الإنسان، فيما تقرير التنمية البشرية الدولي أشار إلى أن سبع دول عربية قد حققت مستوى مرتفعاً في التنمية البشرية، كذلك فإن إحدى عشرة دولة عربية حققت مستوى متوسطاً من هذه التنمية».
وقال: «وهنا، يؤسفنا القول إن التقرير قد حفل بالقفز فوق النتائج والواقع، حيث أشار إلى انتشار ظاهرة الإتجار بالبشر في البلدان العربية بلا دليل أو برهان. وكذلك، ما يتعلق باستقلالية القضاء في البلدان العربية كلها، وعدم التزام الدساتير العربية المعايير الدولية، وغيرها من التعميمات، هو أمر مخلّ بقواعد المنهج العلمي في التحليل، وهو أمر نربأ بأن يكون مدرجاً في تقرير التنمية البشرية».

التطاول على القضية الفلسطينية!

وأشار الصلح إلى أن التقرير رأى أن حركة التحرر الوطني الفلسطيني تجند الأطفال، متطوعين أو مرغمين، لأداء أدوار إسنادية في كفاحها للاحتلال، وهو أمر لا تعوزه الدقة العلمية فحسب، بل يتنافى مع الذوق العام، ولم يسبق لأي تقرير صدر عن الأمم المتحدة أو سواها أن ألصق هذه التهمة بحركة التحرر الوطني الفلسطيني. ومن عيوب هذا التقرير أن هذه الإشارة السيئة كانت السابقة الأولى في التقارير الدولية التي جرؤت على القول إن حركة التحرر الوطني الفلسطيني جندت أطفالاً، وهذا انتهاك صارخ لكرامة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، فيما لم يذكر التقرير ما ورد في عدد من التقارير عن عدم تردد الجنود الإسرائيليين في استخدام مواطنين فلسطينيين دروعاً بشرية خلال الحرب على غزة. ووجد الصلح التقرير أنه يتجاهل تأثير الاحتلال الإسرائيلي على مسيرة التنمية في المنطقة العربية وعلى الأمن البشري لسكانها، ويقلل من أهمية تأثير التدخلات الأجنبية في الأمن البشري لمواطني العراق والسودان والصومال. من جهة أخرى، انتقد أحد المشاركين، وهو باحث ودكتور في الجامعة الأميركية، اعتماد 70% من معطيات التقرير على دراسات الأمم المتحدة، مشيراً إلى أنه قدم ورقة إلى معدّي التقرير، فإذا بهم يحذفون كل العبارات التحليلية منها، وقال: «لماذا هذا العداء للتحليل؟».
إلا أن مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة، المديرة الإقليمية لمكتب الدول العربية، أمة العليم علي السوسوة، حاولت في ردها التلميح إلى أن السيد «رفض إجراء بعض التعديلات وفق مقترحات المجلس الاستشاري، وما قاله جاء في لحظة انفعال»، فيما أشارت إلى أن التقرير اعتمد على دراسات الأمم المتحدة، لكون العديد من الدول تضغط لعدم قيام عدد من الدراسات المتوافرة لدى الأمم المتحدة.