يحاول الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أن يختتم عهده بإمرار اتفاق تجاري من شأنه تغيير بنية العالم السياسية والاقتصادية، وإنهاء عهد الديموقراطية في ظل أزمة الرأسمالية وتثبيت حكم جديد، هو حكم الشركات المتعددة الجنسية. فقد أكّد أوباما، والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، إثر اجتماع (راجع عدد أمس)، دعمهما اتفاق «الشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار» بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو الاتفاق الذي من شأنه أن يضع المسمار الأخير في نعش الديموقراطية الأوروبية، الهشّة أساساً، وأن يفتح عهداً جديداً من اتفاقات التبادل التجاري في العالم، ما يوسّع رقعة حكم الشركات المتعددة الجنسية، لتعطيها صلاحية التدخّل في كل صغيرة وكبيرة على مستوى الدول.
في وسط القلق العام والاعتراضات حيال هذا الاتفاق (والاتفاقات الأخرى التي ستلحقه)، رأى أوباما أن «مشكلة الرأي العام» أنه يخلط بين «اتفاق التجارة الحرّة والآثار السلبية للعولمة»، ليحوّر بذلك طبيعة أزمة الاقتصاد العالمي، ويصوّر الحل على أنّه يكمن في تحرير السوق وترك الاقتصاد (وفي النتيجة السياسة والمجتمع ككل) تحت رحمة الشركات الكبرى وبيروقراطياتها المنظِّمة.
وهذه الشركات لم تتمكن من إخضاع الدول لإرادتها كلياً مع أن هيمنتها زادت في القرن الماضي، ولكن في كل مرة توقع شركة اتفاقاً مع دولة ما، يفتح السوق ويخلق واقعاً مناسباً لها، كانت تلك الدول تعود وتلغي الاتفاقات حينما تبدأ مصالح الشركة والدولة بالتضارب، أو مثلاً في حال حدوث ثورات أو انقلابات عسكرية، أو محاولات تأميم مصالح وشركات وما إلى ذلك.
وحتى عام 1959، لم يكن أمام الشركات أي خيار لضمان استمرارية مصالحها في أي دولة (خاصة في العالم الثالث الذي كان يخرج من عباءة الاستعمار). ويتضمن القانون الدولي بنداً غامضاً يطرح حلّاً لهذه الإشكالية، يقول بجواز عقد «أطراف متعاقدة» اتفاقاً اسمه «معاهدة الاستثمار الثنائية»، من المفترض أن يحمي الأطراف من سياسات بعضها التي قد تهدد مصالح شركاتها وتحدّ من أرباحها. وكانت أول معاهدة قد تمّت بين ألمانيا وباكستان في 1959.
لن يحق للدولة الموقّعة تأميم أو مصادرة الشركات المتعاقدة معها

كانت الدول في البداية مترددة في إبرام هذه المعاهدات وإعطاء الشركات صلاحيات أكبر، ففي 1996، لم يكن هناك أكثر من 38 منها. لكن مع حلول عام 2011 كان العدد قد ارتفع إلى 400. اليوم يوجد أكثر من 4000 معاهدة استثمار ثنائية تحرّك سياسات الدول وتحدّ صلاحياتها في اتخاذ قرارات تعود بمصالح وطنية قد تتضارب مع مصالح الشركات المتعددة الجنسية (وقّع لبنان مثلاً نحو 52 معاهدة استثمار ثنائية، أبرزها مع الولايات المتحدة وإيران وألمانيا والإمارات).
وفي 1994، خلال محادثات عقد اتفاق «نافتا» (اتفاق تجارة حرة بين كندا والولايات المتحدة والمكسيك) وردت فكرة جديدة شكّلت نواة مرحلة جديدة من الاتفاقات التجارية، طرحت التالي: ماذا لو تضمنت الاتفاقات التجارية، كشرط من شروطها، «معاهدة الاستثمار الثنائية»؟ بذلك نلزم جميع الدول «المتعاقدة» الخضوع للشركات وتحرير الاقتصاد نهائياً.
ويجب التنبيه قبل الخوض في تفاصيل هذه المعاهدة إلى أنها ليست اتفاقية دبلوماسية، لذلك لا علاقة للحكومات المحليّة بمضمونها، بل هي بند في القانون الدولي، أي إنها من شأن المحامين الدوليين. وتشترط المعاهدة على الأطراف الموقعة، الموافقة على أنه لا يحق للدولة تأميم أو مصادرة الشركة الأجنبية المتعاقدة معها، بغض النظر عن أيّ تغيّرات في سياساتها، أو أي تغيير حكومي، أو في حال حدوث انقلابات، أو ثورات... وهلمّ جراً.
يشرح الصحافي وعضو «حزب الخضر» البريطاني دايفيد مالون، أن معنى مصطلح «مصادرة» هنا تبدّل كثيراً حتى صار يعني «مصادرة أرباح الشركة المستقبلية»، أي التي لم تجنها بعد، ما يعني أنّه يحق للشركة الأجنبية، بموجب آلية في القانون الدولي تسمّى «تسوية المنازعات بين المستثمرين والدولة»، مقاضاة الدولة لزيادة الضرائب أو دعم قطاع عام ينافسها، أو حتى اتخاذ قرارات سياسية لا تناسب مصالح الشركة (حدث ذلك في مرّات عدة).
القضية، في هذه الحالة، تحال على لجنة مكوّنة من ثلاثة محامين دوليين، ولا يحظى الشعب (أو الدولة) بأي اطّلاع على آلية تقرير الحكم (تفوز الشركات بالقضية في أغلب الأحيان دون أن تنشر أي تفاصيل عن الإثباتات التي قدّمتها، أو المنهجية التي اتبعتها اللجنة في اتخاذ القرار). ويمكن الشركات أن تجبر الدولة على إغلاق مصالحها العامّة تحت ذريعة أنّه بدعمها تلك المصالح، تقلّص الدولة أرباح الشركة (أي تصادر أرباحها المستقبلية)، وبذلك تصير جميع القطاعات من الصناعة إلى التعليم والإعلام، مسخّرة لإنتاج الربح لتلك الشركات.
في المبدأ، ليس اتفاق «الشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار» إلّا ذريعة لتعميم «معاهدة الاستثمار الثنائية» في العلاقات التجارية بين أوروبا والولايات المتحدة، ما سيفقد الأولى سيادتها بالكامل. وستلحق هذه الاتفاقية اثنتان غيرها: الأولى بين 12 دولة والولايات المتحدة، والأخرى تستهدف 70% من اقتصاد العالمي للخدمات. كذلك ستعطي هذه الاتفاقات الشركات عملياً القدرة على التحكّم بالدول وباقتصادها وبمواقفها السياسية وببرامجها التنموية، وأيضاً بمعدلات الضرائب، ثم ستقضي على الضمانات الاجتماعية. ولن تحدث الثورات ولا الانقلابات ولا تغيير الحكومات والأنظمة أيّ فارق، لأن الاتفاقية تبقى سارية؛ وإذا قررت حكومة ما الاعتراض، ستأخذها الشركات إلى القضاء (لجنة تتألف من ثلاثة محامين دوليين) وسيحكم القضاء لمصلحة الشركات، وقد لا يسمع حتى الشعب بالأمر لتضمّن بعض الحالات شروطاً بالسريّة التامة.