تؤطر مفاهيم اليمين واليسار انتخابياً ووظيفياً الحياة السياسية في بلد شهد ولادة المصطلحين إبان الثورة الفرنسية. وعملياً، يتقاسم الحزبان الأساسيان، الاشتراكي واليميني مع اختلاف التسميات، السلطة ويقبضان على آلية تزكية الشخصية السياسية التي ستخوض الانتخابات الرئاسية عبر آلية انتخاب أو تزكية داخل كل من هذه الأحزاب. وحتى اللحظة، لم تنجح أي محاولة لخرق هذا الاحتكار من خلال وصول أي شخصية سياسية من خارج التشكيلين منذ قيام الجمهورية الخامسة في 1958. فخلال 58 عاماً من عمر الجمهورية الخامسة إلى اليوم، توالى على السلطة سبعة رؤساء، أربعة منهم يمينيون (32 سنة)، اثنان اشتراكيون (20 سنة)، ووسطي يميني واحد (7 سنوات).يساعد في هذا الأمر دستور الجمهورية الخامسة، وبشكل أخص قوانين الانتخابات النيابية الأكثرية التي تساعد التشكيلين في المحافظة على كيانهما السياسي ومنع أي "تطفل" نيابي من خلال الحفاظ على الثنائية الحزبية التي تضمن تقاسم الحياة السياسية ــ برلمانياً ورئاسياً ــ وتأطير الاقتراع بردع الناخب عن إعطاء صوته لأي مرشح من حزب آخر، لأن من الصعب أن يفوز في ظل قانون انتخابي كهذا. مع الإشارة إلى استثناء وحيد في خلال رئاسة الاشتراكي، فرنسوا ميتيران، عام 1986 جاء للحد من وقع خسارة الاشتراكيين المتوقعة للانتخابات التشريعية، ولتقسيم اليمين، عبر السماح انتخابياً للجبهة الوطنية بأن تتمثل بعدد من النواب (35 نائباً في حينه). إضافة إلى الانتظام في التصويت للحزبيين المنتخبين في الجمعية الوطنية، الذي طرأ خاصة بعد 1958 وأصبح من مميزات النظام السياسي الفرنسي الحالي. وهو يؤدي فعلياً إلى اعتبار المنتخبين تحت لواء أي من الأحزاب ككتلة واحدة في ما يتعلق بالتصويت في الجمعية الوطنية، وتالياً باحتساب الأكثرية والأقلية. وهو ما يميز الجمهورية الخامسة عن سابقاتها، خاصة الرابعة (1946-1958) التي اتصفت بعدم استقرار سياسي كبير على مستوى الأكثريات، وبالتالي الحكومات، يساعد في ذلك الظروف السياسية الداخلية في مرحلة ما بعد الحرب، والدولية، خاصة نزع الاستعمار.
بالمحصلة جاءت الجمهورية الخامسة كتوازن دستوري جديد لمصلحة السلطة التنفيذية، أعطى فرنسا استقراراً مؤسساتياً لافتاً وديمومة منذ أكثر من خمسة عقود، وهو ثاني أطول نظام حكم بعد الجمهورية الثاثة (1875-1940) مع فارق الاستقرار. نظام تلعب فيه الأحزاب، وتحديداً الحزبين الأساسيين الاشتراكي واليميني، دوراً أساسياً في انتظام عمل المؤسسات الدستورية من خلال تبلور لأكثريات حولهما.
يبقى السؤال عن
مدى اشتراكية
رئيس سار بعدد من إصلاحات ساركوزي

تاريخياً يمكن العودة باليسار الفرنسي إلى المرحلة التي شهدت ولادة المصطلح، وهو تاريخ يطول من الاشتراكية الطوباوية السيمونية في الربع الأول من القرن التاسع عشر، فالحركات العمالية والنضال السياسي ضد الملكية أو الإمبراطورية لاحقاً، وصولاً إلى تشكيل الأممية الثانية في باريس سنة 1889، مع وجود تيارات أخرى كثيرة غير ماركسية. يذكر أنه في نفس الفترة تقريباً، أي في 1884، اعتُرف بالحقوق النقابية في فرنسا بعد قرن تقريباً على إلغاء الثورة الفرنسية لحق تشكيل الجمعيات.
في 1905 توحدت الاشتراكية السياسية الفرنسية في "الفصيل الفرنسي للأممية العمالية" (SFIO) وضمت مختلف التيارات الاشتراكية الفرنسية. لكن ظروف الحرب العالمية الأولى والوحدة المقدسة، أي دعم الاشتراكيين الفرنسيين لدخول فرنسا الحرب ــ وتصويت الاشتراكيين الديموقراطيين الألمان من جهتهم على تمويلها ــ ثم الثورة البلشفية وتشكيل الكومنترن في 1919، أطاحا هذه الوحدة.
ظهرت بوادر الانقسام في خلال مؤتمر "زيمرفالد" في 1915، ثم مؤتمر تور في 1920، الذي شهد تصويت أغلبية اشتراكية على الالتحاق بالكومنترن وولادة الحزب الشيوعي الفرنسي، ليؤكد عمق الانقسام الأيديولوجي بين الثوريين والإصلاحيين.
في فترة ما بين الحربين، وباستثناء فترة ولاية الجمعية الوطنية بين 1919 و1924، كانت الأغلبية النيابية تتشكل عادة من يسار متعدد، لكن بشكل أساسي من الاشتراكيين والراديكاليين، وهي التركيبة اليسارية ــ مع تمثيل أكبر للشيوعيين ــ التي منحت السلطة للماريشال بيتان بعد هزيمة فرنسا أمام الألمان في تموز 1940.
بقيت الأغلبية النيابية يسارية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع تقدم وضع الحزب الشيوعي في الصدارة، يسارياً أقله، حتى آخر أيام الجمهورية الرابعة التي أطاحتها حرب الجزائر، وصولاً إلى الجمهورية الخامسة، التي شكلت بدايتها طريق جلجلة طويلاً للاشتراكيين الفرنسيين، خاصة مع طغيان شخصية الجنرال ديغول على الحياة السياسية. وبالرغم من أن عدة محاولات للعودة الجدية على الساحة السياسية قد باءت بالفشل، إلا أنها سرعت في إعادة تنظيم الصفوف والوصول إلى النقطة المفصلية التي شكلها مؤتمر "ابينيه" (مؤتمر توحيد الاشتراكيين) عام 1971، وانتخاب ميتران سكرتيراً أول للحزب الاشتراكي. تلا المؤتمر في 1972 توقيع برنامج عمل مشترك مع الحزب الشيوعي، تمهيداً للانتخابات النيابية العام التالي.
شكل المؤتمر انعطافة مهمة في تاريخ الحزب الاشتراكي الفرنسي، سمح له بتجديد صفوفه والمنافسة القوية على السلطة التي أوصلت ميتران إلى السلطة عام 1981، ولمدة 14 عاماً. جاء ميتران حاملاً آمالاً كبيرة للاشتراكيين، خاصة أنه أول رئيس يساري يصل إلى السلطة منذ بداية الجمهورية الخامسة. بعيد انتخابه، طبّق ميتران سياسة اقتصادية مستوحاة من البرنامج المشترك، سبّب فقداناً للثقة وهروباً كبيراً للرساميل من فرنسا مع مضاربات ضد الفرنك الفرنسي، ما أدى إلى تغيير جذري في السياسة الاقتصادية في آذار 1983، أخرج فرنسا فعلياً من النظام الاقتصادي الموجه جزئياً الذي تلعب فيه الدولة دوراً مهماً، إلى نظام ليبرالي اجتماعي، لم يذهب في رد فعله الاقتصادي إلى تبني الحلول الليبرالية الصرفة التي طبقها الثنائي تاتشر ــ ريغان في الفترة نفسها.
خلق التحول الذي قام به ميتران حالة من عدم الارتياح مهدت لأول حالة مساكنة بين رئيس اشتراكي ورئيس حكومة يميني، بينه وبين شيراك في 1986، لكنه لم يمنع إعادة انتخابه لولاية ثانية في 1988.
بعد انتهاء ولاية ميتران الثانية في 1995، مرّت 17 عاماً قبل وصول اشتراكي آخر إلى السلطة (فرنسوا هولاند) في 2012. وبين التاريخين تحولات كثيرة في فرنسا وأوروبا عموماً. لكن السؤال يبقى عن مدى اشتراكية رئيس ــ وحزب ــ سار بعدد من الإصلاحات التي كان قد بدأها نيكولا ساركوزي قبله، وعدد آخر منها اقترحتها أكثرية لم تكن كلها "يسارية"، كاقتراح تعديل قانون العمل، إضافة إلى إبرام المعاهدة الأوروبية ــ التي كان قد وعد بإعادة المفاوضات بشأنها عشية انتخابه ــ وتجنب المواجهة مع نظيرته الألمانية اللدودة، وصولاً إلى أرقام البطالة، وهي الهاجس الذي يطارد الرئيس الفرنسي منذ بداية عهده، والذي لم تستطع سياساته إلى الآن إيجاد علاج له. وقد يكون موضوع البطالة المعيار الأهم الذي على أساسه قد يعيد هولاند ترشيح نفسه إذا طرأ تحسن في الأمر، خاصة في ضوء ما أعلنه المعهد الوطني للإحصاء، أنه يتوقع انخفاض نسبة البطالة في أول ستة أشهر من العام الحالي، بفضل ارتفاع نسبة النمو في الاقتصاد الفرنسي.
ولا يغيب عن ولاية هولاند هوس حملات الرأي، التي يبدو أن لليسار الفرنسي خاصة، شغفاً بها، بعكس ما قد توحي به كلمة يسار للبعض. فقد شكلت ظاهرة الكوميدي الفرنسي، ديودوني، مناسبة غير مسبوقة استفاد منها هولاند ووزير الداخلية في حينه مانويل فالس، لإدارة حملة إعلامية ضد الكوميدي المذكور بحجة معاداته للسامية، وانشغلت فرنسا عدة أسابيع بقضية رأي عام على حساب عدد من القضايا الأكثر أهمية كالبطالة. وانتهت فعلياً بمنع ديودونيه من عرض مسرحيته، والأهم أفرزت اجتهاداً جديداً لمجلس شورى الدولة بمعرض النظر بقضية متفرعة من محاولة المنع، تتناقض بشكل كبير مع التقليد الليبرالي للمجلس المذكور في ما يتعلق بحرية إبداء الرأي، وهو تقليد اجتهادي عمره أكثر من ثمانية عقود.
أما في السياسة الدولية، فلم يعارض ميتران حرب الخليج الثانية في ذلك الوقت، فيما فعل ذلك اليميني، شيراك، قبيل غزو العراق في 2003، وحتى مع الأخذ في الاعتبار اختلاف المرحلة والدوافع، فالقيمة الرمزية للموقف تبقى. وإذا كان ساركوزي "أطلسياً"، فإن هولاند حتماً ليس ديغول ثانياً في تمايزه عن السياسة الأميركية عامة، وحماسته للتدخل العسكري في سوريا تشهد له.