لم تتوقف السعودية عن سياسة الهروب الى الامام. وحالة الانكار التي تعيشها منذ شهور، جراء هزيمة مشروعها في اليمن، مستمرة على صعيد يتجاوز اليمن ايضاً. وهو ما يقودها الى خيارات لا تبدو متجانسة مع الوقائع الخاصة بهذه الدولة، مثل التحالف الذي أُعلن أمس، وضم دولاً بعضها سمع فيه عبر وسائل الاعلام، في خطوة لا يمكن، من حيث توقيتها المصادف لانطلاقة المحادثات اليمنية ــ اليمنية في سويسرا، وفي مضمونها الذي يركز على عناوين كبرى، سوى وضعها في سياق عملية تغطية لفشل العدوان الواسع على اليمن، والذي كان يمثل تحالفاً بين دول أعلنت السعودية أنها أعضاء في التحالف الجديد. عندما انطلق العدوان، حدد الهدف الأساسي بإلحاق الهزيمة الكاملة بالجيش اليمني واللجان الشعبية، وسارع الناطقون باسم العدوان إلى ترجمة ذلك بعودة الرئيس المستقيل، عبد ربه منصور، الى صنعاء وتسليم كامل السلاح والانسحاب التام من المدن وعودة الوضع الى ما قبل دخول أنصار الله الى صنعاء. ووصلت التبجّح عند الناطق باسم العدوان، احمد العسيري، حد الإعلان أنه حتى لو قتل الرئيس السابق علي عبدالله صالح، والسيد عبد الملك الحوثي، فإن الحرب لن تتوقف إلا بالتنفيذ الكامل وغير المشروط لمطالب العدوان. ومن يومها، عملت المخيّلة الخصبة لأعوان العدوان في اليمن وفي المنفى على نسج سيناريوات المرحلة القادمة من إعادة تشكيل الجيش بما يتماشى مع مشروعهم، بل إن بعضهم طرح فكرة حل الجيش بشكل كلي، تماماً كما فعل الأميركيون في العراق، معتبرين أن الجيش اليمني مبني على أسس قبيلة تدين بالولاء للرئيس السابق علي عبدالله صالح، إضافة الى إنتاج حكم ليس فيه المكوّنان الرئيسيان في البلد (أنصار الله والمؤتر الشعبي العام) ورسم مصير رئيسي هذين المكوّنين: الأول النفي هو وأنصاره الى جبال مران في صعدة، والثاني السجن مع تطويع حزبه بعد إعادة هيكلته بما يتماشى مع أهدافهم.
الاستعلاء السعودي حال دون اقتناع دول «التحالف» بغياب الأهداف
بعد مضي شهور من العدوان والصمود الأسطوري للجيش والشعب اليمنيين، ثبت لدول "التحالف" أن الاهداف المرسومة لن تتحقق، غير أن الاستعلاء السعودي حال دون الإقرار بهذا الواقع. وبدل أن يشكل انسحاب أنصار الله من بعض مدن الجنوب حافزاً لإيجاد مخرج سياسي في إطار التفاوض والحوار لإنهاء العدوان بتسوية مشرفة للسعودية، فإنه شكل إغراءً للاستمرار في الحرب وحافزاً لاحتلال كامل اليمن وصولاً الى صنعاء. الهدف الرئيس كان في هذه المرحلة صنعاء كونها العاصمة، ومن خلالها يدار اليمن، ومن دونها تبقى الأهداف غير مكتملة. في البداية انطلقت الدعاية الخليجية تقول إن صنعاء سوف تسقط من الداخل، ليتبين لاحقاً أن العدوان جهّز عشرات الخلايا النائمة، لا سيما في حزام صنعاء، وخصوصاً من المحسوبين على حزب الإصلاح "الإخوان المسلمين". غير أن الاجهزة الأمنية اليمنية باغتت الجميع بشن حملة اعتقال لهذه الخلايا، وألقي القبض على المفاصل الرئيسية، فأحبطت المؤامرة وسقط مشروع سقوط صنعاء من الداخل. انتقل العدوان إلى البحث عن ثغرة يمكن النفاذ منها إلى صنعاء، فحشد عسكرياً وسياسياً وإعلامياً في محافظة مأرب كونها تتصل بالحدود السعودية. ورغم الضربة الموجعة التي تلقتها قوات العدوان في معسكر صافر في أيلول الماضي، والتي أدت إلى قتل 60 جندياً إماراتياً والعشرات من الجنود السعوديين والبحرينيين والمرتزقة، إلا أن العقلية الثأرية أصرّت على تجميع ما تبقى من قوات وزجّت بهم في أتون الهجوم على مأرب، بعد شهر من واقعة صافر. غير أن كل الهجمات انكسرت لمجرد وصول القوات الغازية الى أول التباب (التلال) الصغيرة، مع وقوع المزيد من القتلى والجرحى، مترافقاً مع خيبة سياسية وإعلامية. ومع الوقت، بدا أن الهزيمة هي العنوان، فحاول أصدقاء السعودية المساعدة على مخرج لائق. فطرحت الأفكار الكثيرة، ومنها طلب وزير خارجية بريطانيا من بعض الدول الإقليمية الصديقة لليمن المساعدة في الموافقة على إيجاد ضمانات بعدم حصول القوات اليمنية على صواريخ بعيدة المدى، معتبراً أن الأمر يشكل تهديداً للأمن القومي السعودي. وكانت المحاولة مقدمة لأول تراجع سعودي كبير، من خلال إعلان وزير الخارجية، عادل الجبير، أن "أنصار الله" مكوّن أساسي في اليمن، معترفاً بحقه في المشاركة في العملية السياسية، مدّعياً أن الحرب حققت أهدافها وشارفت على النهاية. تحولت العمليات التي يشنّها الجيش واللجان داخل الاراضي السعودية والسقوط المهين للمواقع والتدمير المخزي للترسانة الأميركية إلى وضع ضاغط على دول الرعاية قبل أن يكون كذلك على دول "التحالف"، فيما ازدادت الخشية من تراكم العمليات التي تحول ناتجها الى ورقة استراتيجية قابلة للتمدد بما يهدد بانفلات الوضع على الحدود وبسقوط المزيد من المدن والأراضي السعودية. ومع تواصل الفشل، سارعت الحكومة الأميركية إلى طلب، وهذه المرة من القائد الفعلي للعدوان، ولي ولي العهد محمد بن سلمان، وقف العدوان لحصر الأضرار. وبعدها سارع مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، إسماعيل ولد الشيخ، إلى المنطقة وزار الدول الفاعلة فيها، مروّجاً لفصل المسار المحلي عن مسار العدوان كمخرج سياسي لدوله، على أساس أن ما تتفق عليه المكونات الرئيسية في البلد توافق عليه دول "التحالف". في الشكل قدم ولد الشيخ مسودة للتفاوض، كانت عبارة عن جدول أعمال المفاضات في سويسرا مع آلية تنظيمية لإدارة الحوار. قدم وفدا صنعاء والرياض ملاحظاتهما على المسودة. وفد صنعاء قرر أن يفاوض على أساس البنود السبعة التي قدمها إلى الأمم المتحدة، فيما وفد الرياض يرى أن أساس التفاوض هو القرار 2216. وفي هذا الاطار، اتصل قبل ثلاثة أيام محمد بن سلمان بالرئيس المستقيل هادي، طالباً منه تسهيل مهمة وفده المفاوض وإزالة العراقيل التي كانت موجودة في السابق. وفي اليومين الماضيين، سارعت الإدارة السياسية للعدوان إلى استباق نتائج المفاوضات بإصدار تعميم إلى الناطقين والماكينة الاعلامية الخليجية بالتخفيف من وقع التراجع الحاد، في محاولة لردم الهوة بين الأهداف المعلنة في بداية العدوان وما آلت إليه آلتهم الحربية من فشل وإخفاق، وبدأوا الترويج لانتصارات وهمية، والادّعاء أن ثلثي الاراضي اليمنية تحت سيطرة "التحالف"، والتقليل من شأن الانجازات والصمود اليمني.