■ ما هو التأثير الموسيقي الأوّل في حياتك؟ أغنية «يا بنت السلطان» لأحمد عدوية. شعرت باندفاع كبير حين استمعت إليها وأنا في السادسة، خلال عيد ميلاد أختي.

■ وفي مراحل لاحقة؟
أغنيات داليدا العربية. فيروز، أيضاً كانت أمي تستمع إليها حين كناّ نعيش في الخارج. كان أبي يستمع إلى أعمال زياد الرحباني، وبيتهوفن، وباخ، وفرقة «آبا»، و«بوني إم». في الفترة التي كنت أعيش فيها في اليونان انغرمت بـ «برينس» ومادونا، وThe cure، ودايفد بوي.

■ عشت مع أهلك في اليونان؟
نعم وذهبت إلى المدرسة هناك أيضاً. تنقلت بين الكويت وأبو ظبي ثم جئت إلى بيروت، والآن أنا في باريس.

■ هل كانت لك طموحات فنية واضحة في تلك الفترة ؟
كلا. كنت أحلم بالغناء. ولم أكن أملك القدرة على التعبير عمّا أريده لأنّني كنت خجولة جداً. لم أكن اجتماعية، ولم يكن لدي الكثير من الأصدقاء. كنت منعزلة.

■ هل ما زلت تميلين إلى هذه العزلة؟
أقضي وقتاً كبيراً وحيدة. أحتاج إلى هذه المساحة مع نفسي، ومع الناس الذين أحبّهم. أحب أن أخرج من حين إلى آخر. حياتي تسمح لي بلقاء أشخاص عدّة، لذا أحب أحياناً أن أعود وأجلس في البيت. يمكنني أن أقرأ مثلاً، وأستطيع أن أراقب نفسي.

■ لنتكلم عن تجربة Soap Kills في مناسبة إطلاق ألبوم Best Of من أغنيات هذه الفرقة. مع ازدياد فرق الـ«أندرغراوند» العربية والمحلية، يعود الحديث عن الثنائي زيد وياسمين حمدان كمؤسَّسْين لهذا الاتجاه عربياً، وكتجربة طليعية. كيف تنظرين إليها الآن، وما الذي تغيّر؟
صحيح أنّ الفرقة انتهت شكلياً، إلا أنّها لم تنته فعلياً. ما زلت أملك الشخصية نفسها، وما زلت ضمن الجو ذاته. ما زال مصدر خياراتي نفسه رغم اختلاف خياراتي اليوم، ورغم التطوّر الدائم في الموسيقى.

■ أخبرينا عن البدايات مع زيد حمدان.
عندما بدأنا، كنت أعرف وأملك الإحساس بأنّ هذه التجربة ستبقى، وبأنّها تجربة طليعية وفريدة. هذا ما منحنا القوّة والدفع لنكمل. لم تكن هناك ثقافة الحفلات، ولا ثقافة الموسيقى البديلة، ولا كان هناك جو يدفعنا إلى التطور. ما قاد التجربة هو خطواتنا الارتجالية والعفوية والصافية، من دون حسابات تجارية. كان تأسيس الأشياء في بداياته، كانتشار الحانات مثلاً. لكن الظروف لم تكن مهيّأة لنا. كنا نغني بالعربية، مع أنماط موسيقية مختلفة، إلا أنّ أعمالنا لم تكن جاهزة للتصنيف ضمن الموسيقى العربية، لذا لم يكن هناك مكان لنا. مثلاً، هناك أغنيات لم تكن تبث على الراديو، كـ«ليه زعلان».

■ كيف أثّرت التجربة فيك؟
وجدت نفسي فيها، كفتاة اتخذت خياراً حينها في الذهاب إلى مكان مجهول، في مجتمع لا يزال يحظر الكثير من الأمور على الفتاة. كنت واعية لهذا الجانب، لكنه كان مخيفاً. كانت هناك الكثير من القوى ضدّنا، وهذا شيء مؤلم. كان يمكنني ببساطة أن أتوقف أو أتعب، إلا أنّه كان جزءاً من الرحلة. تعلّمت الغناء على المسرح، وكنت أكتشف نفسي والجمهور والموسيقى. صرت أؤدي أغنيات عربية من دون القدرة على التحدّث بالعربية جيّداً. لم أكن أرغب بتعلّم الغناء، ولم أحب الكونسرفاتوار. كان لدي دافع شخصي، إلا أنّه كان فعلاً سياسياً واجتماعياً. أردت التعبير عن نفسي بهذه الطريقة. كنت تحت الضغط. شعرت أنّني حرّة، الأمر الذي أزعج المحيط.

خلقت لي Soap Kills مساحة أوكسيجين


■ هل كان لبيروت التسعينيات دور في تحديد بعض ملامح الفرقة؟
الوضع كوّن شخصياتنا. كمراهقين، عشنا في بلد خارج من حرب 15 سنة. لكنه فيما كان يلهمنا، كان يخلق شيئاً من النفور. هذا الوضع كان يعذّبني ويخلق لدي نوعاً من الميلانكوليا والنوستالجيا والأسئلة الوجودية. هذا ما جعل موسيقانا ما كانت عليه. حين كنت أستمع إلى الـ«تريب هوب» في السيارة مثلاً، كنت أرى أنّها أكثر موسيقى تتماشى مع المدينة. التجربة كانت تعبّر عن نوع من الاختلاف الميلانكولي أو الرفض الهادئ، فلم يرافقنا الشعور بالبطولة، بل هناك ما كان يدفعني للتكلّم والغناء والتعبير عن نفسي. كان لدي إحساس بأنّ الموسيقى والغناء هما المكان الذي كنت أريد الذهاب إليه. Soap Kills خلقت لي مساحة أوكسيجين. في مرحلة المراهقة، كان العيش في بيروت يخلق غضباً معيّناً، والموسيقى كانت تهدّئه.

■ هذا ما انعكس على تنوع الأنماط الموسيقية في ألبوماتك.
طبعاً. الموسيقى جعلتني أطرح أسئلة حول هويتي. التنقل بين البلاد، رسّخ انتمائي إلى ثقافات متعدّدة. لذا كانت الموسيقى تصالحني مع شيء من ثقافتي وثقافة العالم العربي. أحس أنّني أنتمي ولا أنتمي إلى لبنان والعالم العربي. وإذا ذهبت إلى أي مكان آخر لا أشعر بالانتماء، حتى في فرنسا حيث أعيش منذ سنوات. إنّها حالة ذهنية ثابتة.

■ لكن هل هذا صحي للفنان؟
نعم. غالبية جيل الحرب تعاني من هذه الحالة. هي صحية ونوع من الهدية. لكنّني أحياناً أتخبط، ما يخلق لدي أسئلة وجودية.

■ كيف تواجهين هذه الأسئلة الوجودية؟ وكيف تتجسد في طريقة أدائك؟
لا أواجهها. أتعذب قليلاً... أهرب قليلاً، لكن ليس هناك أجوبة. هناك أمور لا يمكنك الإجابة عنها، لكن يمكن أن تتحوّل إلى مصدر إلهام. بإمكان الشخص أن يوظف مشاعره وباستطاعته أن يدخل شكوكه في عملية الخلق الفني.عندما أستمع إلى موسيقى قديمة أشعر أنّ هذا هو منزلي، وهذا ما يمكن أن يريحني. وبشكل واعٍ أو غير واع، تخرج الأسئلة في الموسيقى وفي طريقة أدائي طبعاً. إنها صفقة كاملة.

■ ما الذي جعلك تسافرين إلى باريس عام 2002؟
يومها، لم أكن أتخيل أنّ باستطاعتي العيش في مكان قلق خلال السنوات العشر المقبلة. في الفترة الأخيرة، صار العمل في Soap Kills متعباً. شعرت أنّني بحاجة للتطوّر والبحث عن أدوات أخرى.

■ بعد Arabology (عام 2009)، و«يا ناس» (2013)، أتعتقدين أنّك استطعت تحقيق ما كنت تسعين إليه منذ انفصالك عن الفرقة؟
أكيد. مع العلم أن هناك طلعات ونزلات وشكوك. أحياناً، أتمنى لو أنني أغير حياتي كلياً، وأعيش حياة طبيعية بعيداً عن التنقل الدائم. إنّها حياة متعبة، تتطلب جهداً كبيراً. لكن أحياناً أشعر بأنّني مقدّرة، خصوصاً أنّ «يا ناس» لاقى نجاحاً كبيراً. كما أن العمل مع فنانين رائعين يبعث فيّ الأمل. وجدت عائلة كبيرة من الفنانين أخيراً بعدما كنت أبحث عنها منذ سنوات.

■ ذكرتِ الشك، كيف توظفينه في تجربتك؟
إنّه مهم لألّا يصاب الفنان بجنون العظمة، لكن من دون أن يصبح مرضياً. يجب أن يكون الفنان حاضراً ليستقبل كل شيء، وأن يفتح جرحاً معيّناً. سيسبب ضعفاً بالطبع إلا أنّه يخلق قوّة. هذه المفارقة ممتعة جداً، وهذا ما يغذّي الدورة التي تجعل الفنان يتنقل من مكان إلى آخر.

■ رغم اللجوء إلى الموسيقى الإلكترونية والـ«تريب هوب»، استعدت في ألبوماتك أغنيات كثيرة من التراث العربي الكلاسيكي. لماذا تعودين إلى هذا التراث؟
عندما استمعت إلى» يا حبيبي تعالى الحقني» لأسمهان للمرة الأولى، وصلتني مع ماضٍ معين هو ماضي أهلي وجدتي التي كانت تغني لي أسمهان وعبدالوهاب وعمر الزعني. وكان الاكتشاف الصادم بالنسبة إلي أن يكونوا موجودين حقاً. اشتريت كاسيت أسمهان من الحمرا، وبطريقة عفوية تعلمت منها أن أغني الموسيقى بشكل شفهي من دون دخول التفاصيل الموسيقية. كثقافة عربية شفهية كان هو المكان الذي أريد أن أذهب إليه. استعمت أيضاً إلى عبد الوهاب وأصبح «الحب الحقيقي». كان ملهماً بالنسبة إلي كمجدد في الموسيقى العربية. استمع أيضاً لعبد المطلب وزكية حمدان والسيد درويش وأم كلثوم والشيخ إمام. الفترة الممتدة من ثلاثينيات حتى سبعينيات القرن الماضي تشدّني كثيراً. هذه الثقافة تتهاوى، لذا تحدث هذه الأغنيات تصالحاً مع الماضي.

■ هناك تجارب أندرغراوند عربية ولبنانية شابة بدأت تفرض نفسها. هل ترين أنّ لها مستقبلاً وقدرة على التغيير؟
أكيد، إنه مشهد مهم جداً، يساعد في الدرجة الأولى على تغيير العقليات. المهم أن يثابروا ويعملوا بجدية، وأن يبقوا On The Ground (متواضعين). عظيم أن هذا يحدث أخيراً. أظن أن للنساء دوراً مهماً أيضاً في تغيير المجتمع. أشعر أنّ عليّ مسؤولية معينة، وأنا مرتبطة بشيء ما. ولخلفية غنائي بالعربية بعدان سياسي واجتماعي. إنّها رسالة سياسية، في حين لا أملك قوّة تغيير سياسية فعلية. أستطيع أن أفعل شيئاً من خلال فني، بشكل سياسي غير مباشر. لدينا أزمة ثقافية في العالم العربي، لناحية الموسيقى التي تبث على الراديو والتلفاز وفي كل مكان. لذا قد تكون هذه الفرق بداية التغيير. الناس عادةً يستسلمون لما يقدّم لهم، إلا أنّ هناك أملاً بالتغيير.

■ لكن هناك واقع صعب؛ استحالة تأمين المردود المادي الكافي من الفن هنا، بسبب شركات الإنتاج ووسائل الإعلام التي تبث نمطاً معيناً من الموسيقى.
الناس بدأوا يتغيّرون. ظهرت ثقافة الحفلات مثلاً. الأمر فقط يتطلب جدية في العمل، وإصراراً. قبل أن أصل لما أريده، تعرّضت لانزلاقات كثيرة، لكن بمجرّد أن يقرّر أحدهم أن يصبح فناناً، تكون هذه مخاطرة بحد ذاتها. هناك فرق جدية وتجارب جديدة موهوبة، عليها أن تكمل لأنّ البنية صارت مهيأة.

■ في فيلم «وحدهم العشّاق بقوا أحياء» لجيم جارموش، تقول «إيف» عندما تسمع غناءك «أنا واثقة أنّها ستصبح مشهورة جداً»، فيرد «آدام» بالقول: «أتمنى ألا تصبح كذلك. إنّها أهم من ذلك بكثير». كيف يمكنك كفنانة المحافظة على هذا الخط الفاصل بين أسلوبك واتجاهك الفني المستقل وبين الشهرة، من دون الوقوع في النمط التجاري السائد؟
أنا أفعل هذا في عملي، وأدرك تماماً ما هو حولي. هناك تأثير للقوة والمال على النجاح، غير أنّ الأولوية تبقى عملي وقيمته الفنية. لذا، لا يمكنني القيام بتسويات كثيرة. إذا كانت الأولوية أن أجمع المال أو أصبح سوبر ستار سأصنع موسيقى مختلفة، وسيكون دافعي شيئاً آخر. الأهم ألا ينجرف الفنان مع العروضات التي لا تشبهه. هناك أشياء علينا تقبلها أحياناً مثل كثرة المقابلات التلفزيونية تحديداً.

■ ماذا أضافت تجربتك مع جيم جارموش، وما رأيك به كمخرج؟
الأمر لا يتعلق بشهرة جيم جارموش، بل بعبقريته ومهارته وخياراته للممثلين والموسيقى. منذ البداية، كان أحد المفضلين لدي. المشاركة معه في الفيلم فتحت أمامي مجالاً للقاء جمهور جدي ومختلف، لم يكن بإمكاني لقاؤه وحدي بسبب الحظر الموجود على الموسيقي غير التجاري.

■ هل هناك مشاريع جديدة؟
الآن لدي جولتي. وما زلت أحضّر ألبومي الجديد.