الرباط | يذهب نبيل لحلو (1945) بالتجريب في المسرح، كما في السينما إلى أبعد مدى، ويسلك من حين إلى آخر طرقاً تختلف عن الآخرين. يمكن بالتالي أن تكون كلمة «الاختلاف» هي الأنسب لنعت التجربة الفنية الكبيرة للحلو. هذا يعود إلى رؤيته الخاصة للفن ووظيفته من جهة، وإلى تنوع مشاربه القرائية والتكوينية، هو الذي نشأ في فاس العريقة والأصيلة، ودرس لاحقاً الفن الدرامي في مدرسة «شارل دولان» وجامعة «مسرح الأمم» في فرنسا. نبيل لحلو علامة فارقة فعلاً في تاريخ السينما والمسرح في المغرب، فهو مؤلف ومخرج وممثل مشغول بالأساس بالقيمة الفنية لما يقدمه أكثر من انشغاله بما سيرضي أذواق الناس.

الجمهور اللبناني

حين سألنا نبيل لحلو عن وقع مسرحيته في بيروت، قال: «لم يكن لمسرحية «الانهيار» أن تقدم في بيروت «لولا جهود السيدة ريتا معلوف لإقناع السيدة نضال الأشقر بأن تستقبل في «مسرح المدينة» ممثلةً مجهولة لم تسمع بوجودها ولا باسمها مرة واحدة. فأنا سعيد جداً أن يكتشف الجمهور اللبناني صوفيا هادي متمنياً لها أن تقدم «الانهيار» بمسرح مملوء بجمهور لبناني مثقف وعاشق وذواق للأعمال الجميلة العالية والراقية».

«منذ السبعينيات، وأنا اقدم أعمالي إلى الجمهور الطلابي والمثقف. تعودت أن أتوجه إلى هذا الجمهور الذي كان يمثل نساء ورجال الغد. وهذا الجمهور المثقف، الذي أقصده، هو الذي يفترض أن يكون جمهوري لأنني أقدم له مسرحاً راقياً. لكنني فشلت في تصوري بعد أكثر من 45 سنة من الاحتراف المسرحي». هكذا يتحدث المخرج السينمائي والمسرحي المغربي المعروف إلى «الأخبار»، وهو على بعد ساعات من أن تقوم صوفيا هادي بتقديم مسرحية «الانهيار» (إخراج وسينوغرافيا نبيل لحلو) على خشبة «مسرح المدينة» في بيروت. العمل المقتبس عن رائعة ألبير كامو، الرواية التي قال عنها جون بول سارتر: «ربما هي الأجمل والأقل فهماً».
تقف صوفيا هادي على الخشبة لتجسد دور القاضي جان باتيست كلامانس، في مونولوج يتجاوز الساعتين، معتمدة تقنية الفلاش باك لرصد مشاهد السقوط والانهيار التي لا ترتبط فقط بمرحلة تاريخية هي سقوط باريس في الحرب العالمية الثانية، ـــ كما يذهب إلى ذلك ظاهر الرواية ـــ بل التوقف عند الانهيار في صورته الأكثر فجائعية، انهيار القيم الإنسانية وتراجع منسوب الصفاء في أنهار العالم.
حين سألناه عن سبب اختياره نص كامو، أجاب أن صوفيا هادي هي التي اختارت «الانهيار»، ثم إنه نص أدبي وفلسفي وشاعري مهم، جاء على شكل حوار يوجهه شخص لشخص آخر غير موجود معه، و«هو عموماً خطاب سياسي وإنساني يحمل الأفكار التي نرغب في قولها». وعن أداء صوفيا هادي، يقول لحلو: «إنها تشخص دوراً ذكورياً بكامل أنوثتها وإحساسها و جمالها كممثلة قبل أي شيء. وهذه ليست المرة الأولى لها، فقد مثلت دور أفلاطون في مسرحية «محاكمة سقراط»، التي كتبتها وأخرجتها سنة 1996. كما أن صوفيا، التي لم تدرس اللغة العربية، استطاعت ببراعة فائقة أن تمثل باللغة العربية دور «الإمبراطور شريشماتوري»، المسرحية التي سبق لي أن شخصتها باللغة الفرنسية سنة 1973. أما أداء صوفيا لدور جان باتيست كلامانس، فأنا أفتخر به وأعتز به وأعتبره أداء مسرحياً عالياً جداً. لقد شاهدت عبر الانترنت مقاطع من مسرحية «الانهيار» أدّاها عدد من الممثلين الفرنسيين الكبار المعروفين، لكن أداء صوفيا هادي للمحامي القاضي جان باتيست كلامانس يبقى الأفضل والأجمل بالنسبة إلي».
وعن فشله في تكوين جمهوره المثقف، أجابنا: «منذ البداية كانت غايتي أن يكون لي جمهور مثقف كبير، وأنا في الحقيقة لم أنجح في تحقيق هذا. لذلك أعترف أنني فشلت في تكوين هذا الجمهور». ويضيف: «أنا لست ضد العامة، مرحباً بها. لكنها قد لا تفهم أعمالي»، قبل أن يستطرد: «دعني أقول شيئاً، قد يبدو مؤسفاً، لكنه الحقيقة. إن الجمهور المثقف قدم استقالته من أي عمل ثقافي. كان قد قدمها من كل عمل سياسي في نهاية حكم الملك الراحل الحسن الثاني». يتساءل لحلو باستنكار وبنوستالجيا أيضاً: «أين هو الجمهور الذي عاش معنا سنوات الرصاص؟». ويضيف: «أنا لا أتحدث هنا عن المسألة المادية، بل ما يهمني أساساً هو الحضور الثقافي، إن حضور الجمهور المثقف يعطي للعرض جمالية أخرى ويزيد من قوته وألقه». يرى لحلو أن هناك أنواعاً من الجمهور في المغرب، فثمة فئة أولى لا تحترم المسرح، إذ تحضر متأخرة أو تغادر قبل النهاية، ويمكنها أيضاً أن تتجاذب أطراف الحديث أثناء العرض، وفئة أخرى لديها عقدة من اللغة الفرنسية، وهناك الجمهور المفرنس الذي تربى منذ طفولته على عادات وتقاليد المسرح».

رائعة ألبير كامو تتوقف عند الانهيار في صورته الأكثر فجائعية


وعن سبب اختيار لحلو وصوفيا للغة الفرنسية كلغة عرض، سارع إلى الردّ: «أنا أحب اللغة العربية كثيراً، لكن دعني أقول الحقيقة، في المسرح جمهور العربية قليل جداً، بينما بالعكس، جمهور الأعمال المكتوبة بالفرنسية هو من يحضر مسرحياتي ويتابع أعمالي. أتأسف حقاً حين لا أجد مثقفي اللغة العربية لا يملأون مسرح محمد الخامس عندما أقدم مسرحياتي».
وعما إذا كان صاحب «سنوات المنفى» يؤمن بأن المسرح الراهن قادر على انتقاد المجتمع ومحاكمة العالم وتوجيه رسائل ذات طابع نضالي أو تحفيزي، فكان جوابه بالإثبات: «إذا أردنا أن يكون لدينا مسرح حقيقي، يجب أن نتخلص من الرقابة الذاتية والخارجية، ونكون أكثر جرأة. علينا أيضاً التطرق بشكل ذكي وفني للمواضيع السياسية. لماذا لم نشاهد مثلاً عملاً مسرحياً عن اغتيال الرئيس عرفات؟ لماذا لا نشاهد في المغرب مسرحية عن اغتيال المناضل المهدي بنبركة؟ لماذا لا تكون هناك مسرحيات حول أحداث الصخيرات ومحاولات الانقلاب على الملك؟ مثل هذه الأشياء تؤثر بشكل أكبر. وهذا أيضاً ينطبق على دور السينمائيين».

* مسرحية «الانهيار»: 20:30 مساء اليوم وغداً ــ «مسرح المدينة» (الحمرا) ـ للاستعلام: 01/753010