فنان شاب في بيروت يهمس بصوت ملؤه المتعة المشاكسة: «أكوِّن لوحاتي بطعم الرسم». هكذا، يسير عكس مزاج المحترف التشكيلي العراقي تقنياً، لكنه مشبعٌ باستنزاف الحروب المستمرة في بلاده منذ ما يقارب 30 عاماً، وبزمن يجتمع فيه الكل على الفريسة. يأخذ الكلب كمفردةٍ بصرية، يصيغ بها ومنها تأليفاته، ويُنشئ عبرها بنيان لوحته البصري والمفهومي ضمن معرضه «أنياب» في «غاليري أجيال».
من «كلاب الديموقراطية» إلى «الكلاب الآلهة»
في مثل هذه الأيام من شهر نيسان (أبريل) 2003، كان الاحتلال الأميركي للعراق يعلن «سقوط» بغداد. لكن مهلاً الأرض لا تسقط، بل يسقط عليها الغزاة، وتبقى... وتبقى معها ندوب الحروب. بعد 15 عاماً بالظبط، يقوم ابن بغداد سِروان باران اليوم بوصف بصري لمبدأ «التكالب». ليس فقط تكالب الجيوش الأجنبية الغازية لأرضنا، بل تناهش أبناء البلد الواحد. وهنا القياس يجوز على مختلف البلدان العربية.
من بيروت، يصرخ باران بصوت الضحايا، ضد «الاستكلاب» و«الاستشراس». يرسم كلاباً، لكن الضحية هو الكلب نفسه أيضاً. أكثر من ثلاثين لوحة بالإكريليك على القماش، بعضها أيضاً بالإكريليك والفحم على القماش وحتى على الورق. يحاكي الفنان الواقع المزمن الناتج ليس فقط عن الحروب المستمرة في منطقتنا، بل الحروب الإنسية الأعمق من حدود العَسكَرَة. «الحيوانات تقتل لتأكل. أما الإنسان فيقتل من أجل القتل، وهو ما نعيشه حالياً مع تجمع الكل على الفريسة» يقولها بران بمرارة، شارحاً بداية تكوُّن الفكرة بعد الغزو الأميركي للعراق، حين أدخل جيش الاحتلال الكلاب الحربية بكثافة في عمله العدواني. «كانت دائماً تُستخدم لتفتيش البيوت» يقول باران: «لكن الكلب في ثقافة العراقي هو الذي نربيه في بيوتنا ويحرسنا. أما هذه المرة، فدخل الكلب العسكري المتوحش. يدخل بيوتنا ويشم النساء ويشم البيت ويتصرف بطريقة عدوانية إرهابية».
من المعرض (أكريليك على كانفاس ـــ 170 × 138 سنتم)

في البداية، رسم باران جنرالات الحرب وأبقى الكلاب. لكنه مع الوقت، بحثَ وتعمّق في قصص الكلاب عبر تاريخ الحضارات والميثولوجيا العالمية، حيث كان الكلب نقطة الربط بين الحياة والحياة الأخرى والشفاء. هو حارس المقابر وحارس الأرواح، سواء في حضارة بلاد ما بين النهرين، أو الحضارة المصرية، أو حتى عند المايا أو في الحضارة اليونانية القديمة. فهذا العنصر البطل في أحداث الأساطير، الذي ألَّهته مختلف الحضارات، يعاود باران عجن طينته، ويكوِّنه بصرياً على اللوحة، بطلاً لها. مرة كضحية، ومرة كمفترس، وفي كل الاحوال رمزاً تأويلياً للحياة وصراعاتها، أمس واليوم وغداً.

كمفردة بصرية
«نعم هذا المعرض قاسٍ إلى حد ما، لكنني مصرٌّ أن أرسم ما أشعر به. لا يهمني إطلاقاً أن أقدم لوحة تزيينية، بل أحاول أن اقدم فيها فكراً وفكرةً. والواقع أن مفردة الكلب البصرية التي رسمتها تجعله مترأس اللوحة وبطلها. هو المفردة الرمزية التي أُعبر بها عن الحياة! لعبت بالكلب كأنه عجينة، أوزِّعه بحركة جسمه، وأوزعه داخل اللوحة. صنعت تشكيلاً من أجساد الكلاب. هذه كانت فكرتي تقنياً. قدمت تجربة تختلف عن التجربة العراقية التي لا تعتمد على الرسم، بل على السطح والبعد الواحد حيناً أو على الفن المفهومي ومعالجات المواد أحياناً أخرى. لذا هذه المرة أحببت أن أقدم عملاً فنياً وأُكوِّن لوحاتي بطعم الرسم!» بحسب باران.
هنا أكثر من ثلاثين لوحة، بمختلف القياسات فيها كلاب إما باتجاهين مختلفين، أو يتصارعان ورأس أحدهما على كتف الآخر، أو يندمج رأس الإنسان بالكلب. يطغى على هذه الأعمال لون الجلدة الإنسانية المائلة إلى الزهر أو حتى المدمجة مع البنيّ المخفف بالأصفر أو الأحمر. أمر يذكّر بالتشريح الجمالي لأبرز التعبيريين في العالم. لكن المفارقة أنّ «جِلْدَة الرَّجُلِ» في معجم اللغة العربية المعاصرة تعني: قومه أو عشيرته. فيُقال: هو من أبناء جِلْدتنا/ هو من بني جِلْدتنا: من عشيرتنا، من أبناء وطننا. هنا يشرح لنا مدير الغاليري صالح بركات: «المعرض مليء بالرموز والتأويلات. الكلب حيوان أليف، لكنه يمكنه أيضاً أن يكون شرساً. الموضوع يعكس الواقع الذي نعيشه الآن وهو في النهاية عصر التكالب. الناس تنهش بعضها، لم يعد هناك محبة ولا إلفة ولا صبر، في حين يُفترض أننا نعيش في عالمٍ يصبر فيه الإنسان على أخيه الإنسان. كنت أبحث دائماً عن إمكانيات التصالح والحلول الرضائية الحُبية، المربحة لكل الأطراف. لكن الواقع صادم. مثل بسيط؟ تصطدم سيارتان أمامكِ على الطريق، فيبدأ السائقان فوراً بتعنيف بعضهما من دون رحمة بل باستشراس!
نعم الموضوع قاسٍ، لأننا نعيش في زمن قاسٍ جداً! فهل نريد من الفنان أن يصمت؟ أن يرسم الزهور فقط؟ أن لا يحكي عما يحصل؟ أن لا يعبر بفنه عن الحقائق والوقائع؟
أسئلة حقيقية، تجيب عليها أعمال باران بحيث يمكنك استنباط كم هائل من الرموز التي تغذي فكرته، فتشعر بنبض هذه الكائنات السابحة النابحة في مدار اللوحة.
«المعرض قاسٍ، لكن أي عمل فني مرسوم بالفرشاة، يأخذ صفة شاعرية بعيداً عن القساوة» يقول باران، مضيفاً: «الرسم مجموعة متحسسات يصدرها الدماغ إلى اليد والأصابع، ثم ينتقل النبضُ إلى الفرشاة واللون. لذا أي عمل يُرسم مهما كان قاسياً، يصبح شاعرياً على اللوحة».

البنيان التشكيلي التعبيري على وقع الحروب
الكلب كمفردة بصرية أساسية في صياغة اللغة التشكيلية للمعرض، عبر تشريح جمالي متين، وعجينة لونية ناضجة رخيمة. عوامل قد تذكر الرائي لوهلة، بفرانسيس بايكون، أو بلوسيان فرويد وضربات تشريح العضل الواثقة المتنوعة الدرجات. لكن يمكنك أيضاً أن تستطعم خلطات سوتين، أو حتى أن تقرأ نهجاً «أيغون شيلياً» في تأليفات بعض اللوحات، ما يزيد متعتك البصرية وغرقك في تفاصيل الأعمال، وموروثات تاريخ الفن التشكيلي التعبيري الفذّ!
تشريح جمالي متين، وعجينة لونية ناضجة


«كفنان تشكيلي، أنا وليد الفن العالمي. وعبر دراستنا، تبقى تأثيرات الفن العالمي موجودة فينا، كما تأثيرات فن المنطقة. وأساتذة الفن العراقي من معلّمينا. إحالة العمل لهذه المنطقة من تاريخ الفن، لأنني أرسم اللحم، ما يحيلك تلقائياً إلى التعبيرية بعد الحرب العالمية الثانية، حين كان الفنانون مثقلين بمأساة الحرب. وإذا كانت الحرب العالمية الثانية دامت 4 سنوات ونصف، فالحرب التي خضناها طالت 29 عاماً! وقد تركت بنا آثاراً كبيرة. أنا مثقل بالحرب! رسمت خلالها 150 إلى 200 تخطيط عن الجنود. فقدنا الكثير من الأصدقاء. الحرب ما زالت مستمرة إلى هذا اليوم في العراق».

أجيال حاضنة للصرخة
بعد انتقال باران من عمان إلى بيروت، أخذ مرسماً هنا، وبدأ صالح بركات يزور المرسم منذ ثلاث سنوات. من بين التجارب كان مهتماً بالتجربة على فكرة الكلب. يقول باران: «على رغم أن الفكرة قاسية في المضمون، ويمكن أن لا تُباع الأعمال، لكن بركات قال إنه مسؤول عن الاختيار. وأكد أهمية العرض أولاً، لا البيع، باعتبار العرض نشاطاً ثقافياً».
ما يؤكده صالح بركات لـ «الأخبار»: «باران فنان جدي وموهوب أمضى آخر ثلاث سنوات في العمل على هذا الموضوع. وجدتُ في مضمون هذا المعرض تعبيراً حقيقياً عن الواقع والحالة الراهنة. وهنا يهمني أن أؤكد على مهمتي أن أتابع الفنان وأعرض له لأنه كان جدياً. طبعاً، باران يأخذ أيضاً من الأسطورة الميزوبوتامية، وغيرها عن دور الكلب في سياق الحياة والحياة بعد الموت، والعديد من الرموز والدلائل التي هي بطبيعة الحال حجّة حتى يرسم أعمالاً قوية كهذه. طبعاً، كل فنان يريد حجة للرسم وأحياناً يمكن أن تكون حجة بسيطة أو أكثر تعقيداً. ومن الواضح أنني أحب الفنانين الذين لديهم التزام بمواجهة مشكلات مجتمعاتهم».

* «أنياب» لسِروان باران: حتى يوم غد ــ «غاليري أجيال» ــ للاستعلام: 01/345213