في مسرحيّته الجديدة، يفتّت المخرج هاكوب درغوكاسيان، نصّ الكاتب الأميركي إدوارد آلان بيكر، «روزماري وجينجر»، ليدخلنا في واقعية فنيّة «ملبننة»، تبعث على التساؤل حول شكل العلاقات الإنسانية وانكساراتها، أمام جبروت الأنظمة الأبويّة. يدخلنا المخرج إلى فضاء شائك، وعر، وقاس، ضمن عرض يحمل عنوان «ورد وياسمين» (بدءاً من الغد في «مسرح مونو»). موحش. هكذا يتراءى لنا شكل المسرح في «ورد وياسمين». تتضافر العناصر السينوغرافية من ضوء قاتم، طاولات، كراسٍ وبار مهجور لتُخلّف الوحشة والهجران في نفوس المتفرجين. تبدأ المسرحية مع ثلاث دقات عصا من قبل المخرج، على خشبة المسرح، وهو تقليد كلاسيكي يُنذر ببدء العرض. تنطلق حبكة تصاعدية، بطلتها، شقيقتان ورد (سلمى شلبي)، وياسمين (يارا زخّور)، تجتمعان في مقهى أمهما، لتعبئة طلب باسمها للحصول على منحة مالية مخصّصة من إحدى جمعيات دعم وتمكين النساء المعنّفات. ورد سكّيرة، مرحة، فاضحة، بذيئة وشهوانيّة على وشك أن تفقد حضانة أطفالها. أما ياسمين، فأكثر عقلانية، كئيبة، شاحبة، مملّة ومتوترة طوال الوقت. المواجهة بينهما تستمر طوال الوقت. تلهو الشخصيتان بنا، ليتبيّن لنا مع سرد الحوارات، تشكيلات شخصيتهما. بيئة قذرة، وعنف، وغياب لصورة الأب، كلّها مبرّرات لما صارت الشخصيتان عليه اليوم.
حافظت مترجمة النصّ (يارا زخوّر)، على بنائه الدرامي، فنصّ إدوارد آلان بيكر، لا يحتاج إلى تحليل ما يرد على لسان الشخصيتين، إنما يصفعنا بأحداث غير متوقعة، تجعلنا نتساءل عن واقعنا اليائس. تأتي الأحداث قاسية من هول هلوسات ورد حول ولديها. كل الأحداث وحوارات الشخصيات، تأتي ضمن أداء تمثيلي مميّز للغاية. لا تمشي ياسمين العقلانية في الفضاء المسرحي، إلّا بقصد فعل شيء (تحضير قهوة، مثلاً)، في حين تأتي خطوات ورد، مبعثرة وغير مدروسة، تتحرك فقط للتعبير عن نفسها ووجدانها. في فضائها الخاص، تبدو متحرّرة ولعوبة، لكن إذا أرادت القيام بأي فعل (صبّ كأس من الويكسي، مثلاً)، تطلبه من شقيقتها. تفاصيل توضح مدى الفروق بين الشقيقتين، وتكاملهما معاً في الوقت نفسه. الفعل في هذه المسرحية مرتبط بظهور المتناقضات والنزاعات بين الشخصيات ثم حلّها. تميزت سلمى شلبي، بأداء حرفي عالٍ، قلَّ نظيره على خشبات بيروت هذه الأيام. لعبت بالشخصية بسلاسة، ومرونة، وحيوية، وإبداع فني، في حين جسّدت يارا زخور، شخصية ياسمين، بانفعالات فيزيولوجية صادقة، وأداء باطني دفين، نقل ما تخبّئه الشخصية من توتر وعنف بحساسية عالية.
على صعيد آخر، أكثر ما يميّز «ورد وياسمين» هو «تسخيف الموقف». بعد كل حدث مفصلي، تعاود الشخصيتان، الحديث مع بعضهما، من دون قطيعة، وتستكملان تعبئة الطلب، بعد فضح تاريخ كل شخصية، وقساوة ما تعيشه. تتجسد انهياراتهما، أمامنا وأمام بعضهما. واقعية كبيرة، حافظ عليها هاكوب درغوكاسيان، وهو الآتي من عالم السينما، لنكون أمام عمل مسرحي مشغول بأدق التفاصيل. تم نقل النص الأميركي، إلى حيّزنا العام، من دون أي تكلّف إخراجي، أو مبالغة في الأداء. اكتملت عناصر النص، مع الشكل المسرحي، الذي ميّزته، لعبة الإضاءة. تختتم المسرحية، مع ضوء منسكب من نافذة باب المقهى. لا نعلم ما الذي يجري في الخارج من تغيرات. تتنوع الألوان، وتبقى الشخصيتان عالقتين في متاهة العنف. تتبدل الدنيا، في الخارج، وتبقى دواخل الشخصيتين، على حالها. أمل كبير في الخارج، لكنه محكم بقفل مُخبّأ. تخرج ورد من المقهى، وتبقى ياسمين داخله. ما الذي حدث؟ وما الذي يمكنه أن يتغير؟ هل نحن قادرون على طرد العنف من ذاكرتنا؟ هل ستبقى شهوتنا محرّكاً أساسياً لنا؟ أسئلة لم يُجب عنها لا الكاتب، ولا المخرج، ما أنتج نهاية مفتوحة، تُعطي العرض بُعداً تحليلياً عميقاً. نهاية الأحداث روتينية وعادية، لأن الحيّز العام، ربما، يصعب خرقه.

* «ورد وياسمين»: بدءاً من الغد حتى 28 أيار (مايو) ــــ «مسرح مونو » (الأشرفية ــ بيروت). للحجز: جميع فروع «مكتبة أنطوان» أو عبر الواتساب: 81/218174