إنها أشبه بسِنة تطرق الجفون، أن نرى أيقونتين في المحترف المسرحي اللبناني، حنان الحاج علي وروجيه عساف، بعد هذا العمر، يؤديان بجسديهما على المسرح، في وقت صارت فيه مدينة بيروت، أرضاً مسلوباً منها كل شيء، ما عدا الحب، على الأغلب. ينطلق الليلة العرض المسرحي الراقص «إذا هوى» (إخراج علي شحرور ــ أداء: حنان الحاج علي وروجيه عساف)، على خشبة «مسرح المدينة» في بيروت. لا نتوقع من هذا العرض، إلا أن يكون أصيلاً، تتعزز فيه حواراتنا الداخلية. لا نتوقع إلا أن نسمع أصوات المؤدّيَيْن، كأنها موسيقى عميقة، تحملنا على العيش في جو صافٍ، لكنّه شديد المضايقة بالنسبة إلينا.عندما يؤدي ممثلان كبيران، بجسديهما، على المسرح، سيتجاوز الجسد استيتقيّة الحركة، من دون أدنى شك. فهذا الجسد الهش، قد يخوننا، مثله مثل بلادنا الـ«أضيق من الحب». يقول الكوريغراف والراقص اللبناني علي شحرور لنا إنّ فكرة «إذا هوى» انطلقت، في الدرجة الأولى، من هوس شخصي، تجاه الذين يكبرون في بلد كلبنان، وها هم يشهدون اليوم على آخر انهياراته. بالطبع، سيحمل هذا العرض الفني أسئلة حول المصير الجماعي، انطلاقاً من تجارب شخصية، وخبرات، وهموم، تنطلق من الخاص، وتصل إلى العام. جيل مرّت عليه الحروب، والأزمات، والصراعات في منطقة المتوسط، وقرّر البقاء في هذا البلد من دون أي أمان. يخوض الثنائي الحاج علي وعساف اليوم تجربة مغايرة في عرض يرتكز إلى الجسد، والحركة، والكوريغرافيا، ما يتيح لنا كمتفرّجين للإجابة عن أسئلة تتعلق بمحدودية الجسد. إنه «بقايا عرض راقص» وفق ما يقول علي شحرور، الذي يؤكد أنّ ما يثير الاهتمام، هو أن التقدم في العمر يفرض على الجسد، عجزاً، يحول دون القدرة على الحركة، والرقص، والتعبير.


يجعلنا «إذا هوى» نعيد النظر في معنى الرقص، وكيفية تعاطي الجسد مع هشاشته. يحمل أيضاً، عنفاً وقساوة، فهل يمكن أن نظهر بهشاشتنا في هذا العمر على المسرح؟
الحب، الذكريات، صعود المدينة وهبوطها، تشهد عليها قصة الزوجين الممثلين. سنرافقهما في هذا العرض كوحيدين في فجر المدينة، يتشبثان بما تبقّى منها. «هي قصة حب، لكنها قصة مدينة». سيتلو روجيه عساف بعض النصوص التي كتبها إلى حنان في الماضي. ربما سندخل بذلك إلى خيالات الرائد المسرحي اللبناني، وكيف كان الحب وفق منظوره. يقول علي شحرور، إن عملية الإبداع الفني التي رافقت العمل، وجمعت إلى جانبه، وجانب روجيه وحنان، مساعد المخرج شادي عون، بالإضافة إلى مصمم الإضاءة غيوم تيسون، والموسيقي عبد قبيسي ومصمم الصوت بينو رايف، «شكّلت خلية مصغّرة لما نطمح أن يكون عليه العالم الخارجي»، فـ «إذا هوى العالم من حولنا، يبقى لنا المسرح، الرقص، والحب». بات شحرور أخيراً يعمل ضمن أطر الحميمية، يحمل قصص الحب المحرّمة والحقيقية. يحمل على عاتقه في «إذا هوى»، تاريخ المدينة، التي تنهار، ويقوى الحب فيها. العرض، الذي سيجول لاحقاً مرسيليا، وألمانيا، وجنيف، وغيرها من المدن، ينطلق الليلة كموقف سياسي، بحيث يصرّ القائمون على إطلاقه، من مدينته الأم، التي أنجبته قيصرياً. كل الدلالات تشير إلى أن العمل في الإنتاج الفني، بات صعباً اليوم في هذه الظروف، «سنتأقلم لكننا لن نتنازل» يقول مخرج العرض.
أكثر ما يميز العرض، هو التشابك بين جيلين مختلفين من المبدعين. تمثل مشاركة روجيه عساف، قيمةً فنيةً مضافةً. سيشارك مخرج «مجدلون»، و«أيام الخيام»، و«جنينة الصنايع» في «إذا هوى» اليوم. عساف الذي يُعد من أهم منشّطي المسرح العربي، الملتزم اجتماعياً وسياسياً، عمل لسنوات بناءً على عمل استقصائي للذاكرة الجماعية واستيعاب فن الراوي العربي، ما جدّد علاقة الجمهور العربي مع اللغة المسرحية. هو الذي أدان خلال مسيرته تقليد المسرح الغربي، داعياً إلى البحث عن مسرح «عضوي» مرتبط بالخيال الجماعي. تشاركه الليلة حنان الحاج علي، رفيقة الدرب، والمسرح، والحب، والمسرح الحكواتي، المعروفة بحيويتها في المشهد الثقافي في لبنان.


لم يجتمع حنان وروجيه في عمل مسرحي واحد، منذ مسرحية «بوابة فاطمة» التي قُدمت آخر مرة بعد اجتياح حرب تموز 2006. اتُّخذا هذا القرار، وفق ما تقول لنا حنان الحاج علي، «لأن الأمر جعلنا نقديّين تجاه بعضنا، ونصل في أحيان كثيرة، إلى طريق مسدود. لذلك، حرصاً على مسيرتنا وتاريخنا، كان القرار بالعزوف عن تقديم أي عمل يجمعنا. هذا العمل يعني لي، وللقائمين عليه، ولأولادي، وللشباب الجدد» ما يجعل هذه التجربة استثنائية.
تستحضر حنان الحاج علي قول أحد المنظّرين المسرحيين، بأن «المسرح هو شاشة عظيمة، تسمح للواقع بالتسلل إلى الخشبة، وللخيال بالتسلل إلى الواقع، بطريقة عضوية، لا يمكن إلا للمسرح الحيّ أن يفعلها». وعليه، ستؤدي حنان في هذا العرض الراقص، بجسدها دور المرأة، والممثلة، والأم، والمواطنة. كما ستحكي عن علاقة هذا الجسد بشريك حياتها، وشريك مسارها المسرحي. سيؤدي الجسد، بشفافية مطلقة، حكايات مليئة بالنقاشات، والمتناقضات، والحب، والعلاقة مع مدينة بيروت المتلاشية، وقضايا الفقدان بمفهومه المطلق، والآثار التي يتركها على الجسد. «كذلك، سيروي جسدي لحظات الفرح التي عشتها والأحلام التي حلمت بها».
هل يمكن أن يغيّر هذا العمل شيئاً في نفوسنا؟ تؤكد حنان الحاج علي، أنَّه سيكون له أثر كبير على النفوس، ولكن بحسب رغبة المتلقّي بالدخول إلى عمق العمل، أم لا. «أنا أعتقد بأن هذا العمل سيكون كفيلاً بتعزيز «حفريات» المسرح، ذلك أنَّ المسرح يحفر في ذاكرتنا وتطلعاتنا ورغباتنا». عندما يقدم العمل المسرحي للجمهور، يطرح آفاقاً وأسئلة في ذهن المشاهد ويوفر مساحة للتأمل، وفق حنان التي تضيف أنّ هذا العمل الفني، يترك متعة حقيقية للمشاهد. والمتعة، لا تقتصر على الضحك، وإنما على الجماليات التي تُطرح على خشبة المسرح ضمن قالب مركز ومتماسك. باختصار، إن الجمال يؤثر في النفس البشرية.
سنرافقهما في هذا العرض كوحيدين في فجر المدينة يتشبثان بما تبقّى منها


هل سيترك هذا العمل الفني أثراً لدى الجمهور في بيروت؟ وكيف يرى مستقبل هذه المدينة على مستوى المسرح؟ يجيب روجيه عساف بصراحة: «لا أستطيع الإجابة، لأنني ببساطة لا أدري ماذا سيحدث. مستقبل المسرح في لبنان ليس له أي أهمية، لأنه يرتبط بالمجتمع اللبناني ككل. سيترك هذا العمل أثراً على المجموعة التي عاشت هذه التجربة بدون شك، ولكنني لا أعرف كيف سيُترجم هذا الأثر أبداً». يرى عساف أن مستقبل الحياة في لبنان غامض، كما يمكن القول إنه ذاهب إلى أقصى أنواع التدمير، التي ستطاول الجوانب الحياتية جميعها.
يخوض الممثل القدير، هذه التجربة، للمرة الأولى في مسيرته الفنية: «للمرة الأولى، أواجه المسرح بهذه الطريقة، لا يعني أنّي لا أعرفها، بل أعرفها كباحث ومؤرخ، وأكثر ما أعرفه أن هذا التيار الفني، لعب دوراً كبيراً في تطور المسرح في القرن العشرين». انطلاقاً من ذلك، يضيف روجيه عساف، أن مفهومه للعمل المسرحي مرتبط بقناعاته السياسية والدينية، وإلى ما هنالك... وهذا العمل لا ينفصل عن قناعاته، إلا أنه فريد وجديد بالنسبة إليه، وخصوصاً لجهة طريقة الطرح، والقالب الجمالي الذي يتم تقديمه في «إذا هوى»، هذا القالب الجمالي المعاصر، يعبّر بطريقة مغايرة للنظم الكلاسيكية، لأنه يحصر التعبير باستخدام حركة الجسد، في فضاء مبني على الموسيقى والإضاءة، بغضّ النظر عن كلّ العناصر الماديّة الأخرى. هذا الفن يستغني عن كل المعطيات ويحصر التعبير بلغة الجسد المسكون بالأفكار، الأحلام، والمشاعر، فليس هناك إلا تعبير عن الباطن من خلال الجسد. هذا العرض الفني، لا يحمل قصة واحدة، أو شخصيات فحسب، إنّما، هو محصور بالعالم الروحاني الباطني، الذي ليس له أي ظواهر مرئية». هذا التعبير الفني، من خلال الجسد والاقتصاد الفني، يصل إلى حدّ الميثولوجيا التي يفسّرها لنا روجيه عساف، بأنها «حقائق تاريخية وواقعية مَعيشة تتحول إلى خيال». يختم عساف: «قصّة بيروت ولبنان ستصبح ميثولوجيا للأجيال القادمة... إلى جانب الحرب والتدمير، توجد قوّة الحب. فالحرب تدمّر الفرد، إلا أن الحب يبقى أقوى من الحرب». «إذا هوى» يجسّد قوّة الحب واستمراريته. «إذا هوى» أي، إذا عشق، أو إذا سقط.

* «إذا هوى»: الليلة س:20:30 حتى 12 آذار (مارس) ـــ خشبة «مسرح المدينة» (بيروت) ـــ تُباع البطاقات في فروع مكتبة «أنطوان».