مسرحية حالمة، تدخلنا في فانتازيا النفس البشرية، وما يدور فيها من صراعات وتناقضات كالخير والشر، الكامن في أعماقنا، خطّها الكاتب ديمتري ملكي، ونقلها إلى الخشبة، المخرج شادي الهبر، في مسرحية «رحيل الفراشات» (تُعرض على مسرح «مونو» حتى 12 آذار/ مارس). رغم أنها مشبعة بالكليشيهات، على مستوى الشكل والمضمون، إلا أنّ فيها مساراً مغايراً عن المسرحيات السابقة، وتقدماً يسلكه شادي الهبر هذه المرة، ما يجعلنا نعلّق الآمال في المرات القادمة، على استكماله وتطويره.تدخل هذه المسرحية، في الذكريات، والحنين، والنوستالجيا. تحكي عن الصبا، والهوى، والجنس، والرغبة، والكتمان. كلّه في حبكة تحكي قصة أختين، أو جنيّتين، أو فراشتين، ربما، عالقتين، في «عليّة» منزلهما، لكنهما في الحقيقة، وجهان لصورة واحدة، عنّا، نحن البشر. وسط أغراضهما القديمة، تشتعل الذكريات، والحنين، والمشاعر، ما يولّد رغبة في تصفية الماضي، كأنه شيء من التصالح مع الذات، وتصفية الحسابات معها.
تسأل المسرحية: هل صحيح أن الإنسان ذو وجه واحد؟ وإلى أين تذهب الفراشات حين ترحل؟. قد تقلّل هذه الأسئلة، من شأن المسرحية. إذ لا تحمل أيّ بُعدٍ فلسفي، أو مفردات تعكس أفكاراً أو تطلعات أو طروحات جديدة. لا نقلل، بكلامنا هذا، من قدرة ديمتري ملكي، على الكتابة. لهذا الكاتب شأن عظيم في تجسيد الخيال، واختيار المصطلحات الزاهية، أحياناً. لديه جرأة أيضاً، على المسّ باليقينيات، واستحضار مفردات حول الرغبة والجنس، في أسلوب هادف. لكن ربما يتوجب عليه، تغيير شخوصه، العالقة في زمن السبعينيات. الأختان، في مسرحية
«رحيل الفراشات» تمارسان علينا كجمهور، عنفاً كبيراً، في الحكي عن الاغتصاب والمحرمات. لكننا لم نكتف بهذا الخرق. كنّا بحاجة إلى المزيد. نحتاج لأن نرى الأختين، في بيئة تحاكينا أكثر. في بيئة تنغمس فيها النوستالجيا، مع أفكار وطروحات حداثويّة. في المحصّلة، لدى ديمتري ملكي، خيال جامح، عطر، رحب، وقاسٍ أحياناً، لكنه كـ «عليّة» قديمة، تحتاج إلى إعادة ترتيب.
من جهته، قدم شادي الهبر، في مسرحية «رحيل الفراشات» إخراجاً مينمالياً. لم يكن هناك إفراط في استخدام الأدوات والأغراض على الخشبة. كل ما تم وضعه، تم استعماله، بما يخدم النص. التنقلات الحركية، متوازنة، مدروسة، وليس فيها مبالغة. احترافية وخبرة في الإخراج واضحة المعالم. لكنّ الفواصل الموسيقية على الدف (لأشرف الحسين) اتّسمت بالرتابة، وقدّمت جواً تزيينياً لا يحمل أي دلالات، في حين عكست الإضاءة، (تصميم هاغوب درغوكاسيان)، أجواءً هادئة لا فانتازيّة. الكارثة الحقيقية في العرض المسرحي، كان المكياج والشعر المستعار. بدت الممثلتان زينة ملكي، وألفت خطار، خارجتين من عالم، غير مفهوم، غير واضح، غير منطقي. لا يمت المكياج ولا الشعر المستعار بصلة لأي حقبة زمنية، أو عالم متخيّل. كل هذه النواقص لم تمنعنا من الشعور بإحساس الممثلتين، خصوصاً زينة ملكي، التي تختزن خبرةً، وجديةً في التعامل مع الخشبة. لا يقلل ذلك، من شأن ألفت خطار التي تبدو ممثلة تعمل على نفسها كثيراً.
الإخراج مينمالي والتنقلات الحركية متوازنة ومدروسة


إضافة إلى ذلك، ربما، يجب على القائمين على «مسرح شغل بيت» الكفّ عن استخدام الألوان الفاقعة، والخطوط العربية غير الجذابة، في البوسترات الرسمية لعروضهم المسرحية. يحتّم، المسار الفني، والإخراجي، والدعائي، الذي يقوم به «مسرح شغل بيت»، تغييراً نوعياً. بات هذا البيت، الذي ينتج مسرحية، حوالى كل شهر، يحتاج إلى «نفضة»، ورؤية معاصرة، لتحقيق استدامته في المستقبل. ربما، يجب على القائمين، التركيز على نوعية الإنتاجات المسرحية، أكثر من التركيز على كميتها. لا يمكن للمسرح أن يبقى ضمن «عليّة» وأختين عالقتين فيها، تحكيان عن الذكريات. قد تكون نية العاملين في هذه المسرحية أوسع من ذلك، لكننا، بحاجة إلى الخروج عما هو مألوف بالنسبة إليهم. ربما صار ملحاً الاستعانة بالنصوص العالمية، وإعادة بلورتها مع البيئة والواقع. هذه دعوة لأن يكفّ القائمون عن «إخراج» النصوص، من الدرج، الذي يعشّش فيه غبار الماضي. في بيروت، نحتاج إلى «مسرح شغل بيت» صرحاً معاصراً، يكسر المحرمات، ويطبق على عمل السلطات، ويدخل في نفوسنا أكثر. بحاجة إلى مسرح لا يهمّه استقطاب الناس إلى فضاءات ودور المسرح، بقدر ما يهمّه العمل على هدم السرديات، وبث الخيال، وتحفيز الأسئلة، وشبك الجيلين المعاصر والقديم، في وحدة متناغمة، هدفها نقل المسرح إلى مسارات جديدة، فاعلة، وعميقة أكثر.

* «رحيل الفراشات»: حتى 12 آذار (مارس) ــــ «مسرح مونو» (الأشرفية ـ بيروت) ـــــ للحجز: 70/626200 أو في فروع مكتبة «أنطوان»