لم تكن «لعلَّ وعسى» (إخراج كريستال خضر ــ تمثيل رندا أسمر وحنان الحاج علي)، توثيقاً نوستالجياً للمسرح اللبناني، ولا استعادةً لسرديات العصر الذهبي، بل أتت في سياق الربط بين الأزمنة، وإعادة النظر في الواقع الراهن. يتناول العرض تجربة ممثلتين مسرحيتين رندا أسمر وحنان الحاج علي، اللتين بدأتا مسيرتهما في المسرح، بشكل معقّد وشائك، في الثمانينيات، تزامناً مع الحرب الأهلية اللبنانية. وها هما تحاولان اليوم استعادة لحظات من الأرشيف، تعيد تشكيل ذاكرة بيروت، وخارطة مسارحها التي لم تعد موجودة.في بداية العرض، تدخل رندا أسمر من ناحية اليمين، وهي خرّيجة الفرع الثاني، في معهد الفنون في الجامعة اللبنانية، كأنها آتية من «بيروت الشرقية»، وتدخل حنان الحاج علي، خرّيجة الفرع الأول، من جهة اليسار. نستحضر بذلك، مشاهد تقسيم بيروت بين «شرقية» و«غربية» إبان الحرب الأهلية، ويتم بث شريط من أرشيف المسرحيات: «الجائزة الأولى: فرقة ريمون جبارة عن «صانع الأحلام». يأتي صوت عاصي الرحباني «الفنانون هم الأهم»، ويحكي روجيه عساف عن علاقة الحب مع الجمهور، وفيروز عن مشاعرها المتجددة مع الجمهور.
تبدأ الممثلتان، بتقديم شهادات حيّة. تسردان حكاية البدايات، ومواجهتهما السلطة الأبوية وإصرارهما على دراسة المسرح، أو حضور البروفات في السرّ. ذاكرة جماعية، تقدمها الممثلتان، انطلاقاً من فرديتهما، لتحكيا عن الحرب التي مزّقت نفوسنا، وشتّتت ذاكرتنا، عن الاغتراب الإنساني، والعبث السياسي. تغوص كريستال خضر، في نفوسنا أكثر مع تقديم الشهادات عن المرأة، وحريتها المنزوعة، وممثلات المسرح المهمّشات، وتعرّي تشوهات مجتمعنا: «أشعر أنّ الذين يخلقون في لبنان، يخلقون كباراً» تقول رندا أسمر، التي تعود إلى ذكريات مسرحية «صانع الأحلام» لريمون جبارة. تسرد حنان الحاج علي أحداث مسرحية «أيام الخيام» لروجيه عساف، وهي قصة حقيقية من أيام الاجتياح الإسرائيلي عام 1978. يبلغ العنف أوجه، وتُستحضر تراجيديا الحرب الإسرائيلية على لبنان، وتذهلنا فظاعتها وفجاجتها. نسيج مختلف، ومتنوّع، وجيل كامل، عاش الحرب، في الملاجئ، أو في المسارح، أو صار، ربما، في غياهب الموت.


يتميز الأداء المسرحي في مشاهد عديدة، بالـ «الغروتيسك» الذي تأتي وظيفته، لكشف عيوب النظام المهترئ، وتكبيرها في عيوننا. خفة ميكانيكية ميّزت جسدي الممثلتين. ميكروفونات وُضعت على ذقنيهما، فالهدف لم يكن إظهار القدرات التمثيلية وتقنياتها الصوتية، بل كان المعنى، هو الأساس. المعنى الذي لا نستدل عليه، في حينها، بل يجعلنا نصطدم بالحقيقة، بالحرب، بالموت، بعد انتهاء العرض. ينعكس المعنى، وهو الحرب، في مسرحية «لعلّ وعسى»، على نفوسنا، ويجعلنا نفكّر في فائدة المسرح اليوم: أي تغيير يمكن أن يحدثه؟ وأي تغيير أحدثه، أصلاً؟ ما الذي حلَّ به؟ لمَ صار الفراغ ملازماً له؟ لمَ كل هذا الخواء فيه؟ ولمَ لا نزال نأتي لمشاهدة أعمال مسرحية؟ تساؤلات تحملها الممثلتان، ومعهما المخرجة، لتقول: «أنا لم أعد أؤمن بقدرتنا على تغيير العالم، أنا لا أؤمن إلا بالذكريات». يخرجنا العرض من أنفسنا، ويضعفنا أمام ذواتنا. كل ذلك، لا يغيب عنه، فكاهة حنان الحاج علي ورندا أسمر، وخفة ظلهما. وسط أداء «مينمالي»، عفوي، وساخر، ومضحك، وممتع.
كانت «النجمتان» شاهدتين على أفول المسرح. تتوجّه رندا بسؤال إلى حنان: «ماذا حلّ بمسرح أورلي؟». تجيب: «صار مطعم زعتر وزيت». «أين أصبح مسرح «بابل»؟». «باعوا كراسيه».
«جاندارك»، «البيكاديللي»، «مارون النقاش»... غابت الفضاءات المسرحية، وتقلّصت. هذا المعنى، حملته سينوغرافيا خاوية، تشبه ما حلَّ بـ «تياترو بيروت»، و«بابل» وغيرهما... السينوغرافيا، «عقيمة» تحمل ثقل المرحلة التي عاشتها بيروت، وامتدت حتى اليوم.
نص أصيل، دفين بعناصر جمالية، عميق بمحتواه السياسي، والنفسي، والأخلاقي، والشاعري. تقول أسمر: «لم أعد أستطيع تحمّل الأصوات العالية. أنا أحب المسرح، لكنني لم أعد قادرة على التمثيل تحت الأرض، عشنا كثيراً تحت الأرض». تقول حنان: «تطلعت إلى العصافير في سماء بيروت، وصرت أقول «لعلّ وعسى» لا يُغلق أي مسرح». هذا المضمون العميق، يأتي على قدر القيمة الفنية للشكل المسرحي، خصوصاً أنّ هذا العرض لا يغفل الركن الهام في الإنتاج المسرحي، وهو الإخراج لكريستال خضر، التي سعت إلى اكتشاف العلاقة بين النص والبيئة الإنسانية والحضارية التي أفرزته، واستطاعت أن توائم النص مع القضايا الإنسانية التي يطرحها المجتمع. المضمون كان مكثّفاً ومركّزاً، يصل إلى المتفرج بشكل واضح.
تدخل رندا من ناحية اليمين كأنها آتية من «بيروت الشرقية»، وحنان من جهة اليسار

كان بمثابة دعوة لرفض سلوك اجتماعي معين. يجبر النص المتفرج على إيقاظ نفسه. لم تدخلنا كريستال في الحدث، ولم تغرقنا فيه، لم تكن الأجواء غامضة، ومزكية للخيال، ومثيرة للعواطف فقط، بل دعتنا للدخول من باب البساطة، للكشف عن العيوب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لتكون بمثابة دعوة للتغيير. كانت الخشبة في هذا العرض، «مساحة فارغة»، إلا من المعنى.
لا يمكن اختتام السرد، بدون استحضار طيف رواد المسرح في لبنان، عندما كانت بيروت مشتعلة بالحروب والنزاعات. رائدة المسرح اللبناني، رضا خوري، التي أصابها مرض الألزهايمر، وصارت تنسى مونولوجاتها على الخشبة، كأنها مدينة بيروت «وقفت، فجأة، دقيقة صمت كاملة، ثم بدأت العرض المسرحي بأكمله من جديد» وفق ما تخبرنا حنان الحاج علي. يخيّم أيضاً طيف ريمون جبارة وأنطوان ولطيفة ملتقى وروجيه عساف وغيرهم من الفنانين الذين صاغوا أساليب متعددة للعمل المسرحي. كل من هؤلاء، «يضمحل بالطريقة نفسها، بدون رد للاعتبار، لحماية عطائهم وتخليدهم» وفق ما يقول المسرحي الكوبي كارلوس سيلدران، في رسالة يوم المسرح العالمي التي يضيف فيها «إنّ كل أساتذة المسرح يحملون معهم إلى قبورهم، لحظاتهم التي يتجسد فيها الوضوح والجمال». اليوم، يأتي دور حنان ورندا، لتقدّما لنا صورة غير مخادعة للمسرح وللحياة، صورة أنفسنا، وتاريخ نزاعاتنا وتمزقاتنا، كي «لا يكون المسرح إشباعاً وقتياً عابراً»، على حدّ قول بيتر بروك.

* «لعلّ وعسى»: س:20:30 مساءً حتى 18 كانون الأول (ديسمبر) ــ مسرح «مونو» (الأشرفية) ـــ للاستعلام: 70/626200