الديستوبيا التي عاشها الإنسان السوري في فترة الحرب وخلّفت وراءها صدوعاً نفسية مريرة، نتيجة العجز عن التلاؤم مع ظروف الواقع، ما جعله يلجأ إلى بناء واقع آخر يتخيله في لا وعيه في شيزوفرينيا عصابية، عكسها العرض المسرحي «كاستينغ ــ تجربة أداء» (كتابة وإخراج سامر إسماعيل ــ تمثيل عامر علي ودلع نادر ومجد نعيم) الذي قُدِّم قبل أيام على خشبة «مسرح المدينة» في بيروت ضمن فعاليات مهرجان «مشكال».حاول الكاتب الاتكاء على تيار الوعي الذي يختص فيه المنجز الروائي لجهة فكرة الغوص والحفر داخل الذات الإنسانية لجعل التداعي الحر لمكنونات النفس يفصح عن تاريخ من التصدعات والشروخ بهدف تصوير واقع عاناه السوريون على اختلاف شرائحهم. هكذا، نرى المخرج السينمائي «جو» وهو يراجع نصّه الأخير على حاسوبه، وفي الخلفية على الشاشة مشاهد من أفلام عالمية شهيرة، قبل أن يتكلم ويفصح عن شخصية عصابية متوترة برزت عند دخول الممثلة جوليا (دلع نادر) من أجل تجربة أداء لاختيار بطلة نصه اتضح أنها جاءت بعد عدد هائل من المقابلات الفاشلة. الممثلة التي بدت سطحية وساذجة بادئ الأمر، ما لبثت ــ بعد أخذ ورد بينها وبين جو الذي اشتغل على شحذ طاقتها الانفعالية ـــ أن كشفت بالتدريج عن هواجسها وانكساراتها وخيباتها في مجتمع يسحق البريء والضعيف. تتبادل الأدوار مع المخرج في إماطة اللثام عن دواخله النفسية من خلال اتهامات وتهويمات بمشابهة بين حبيب خائن سابق لها وبين المخرج الذي يعاني بنية مأزومة جراء تاريخ معطوب وانكسارات وارتكابات تركت فيه مشكلات نفسية عميقة زادتها ظروف الحرب تشويهاً في الذات. ينتقل المخرج ويرسم لوحات أخرى ضمن فانتازيا التجريب والانتقال من حالة إلى أخرى: من الحبيب الرسام الذي يرسم حبيبته العمياء بحالاتها المختلفة ليرفضها عندما تبصر، لأن مصلحته تقتضي الاشتغال على المغاير الاستثنائي وليس الطبيعي، والحالة الأخرى التي تختفي خلف قناع عجوز متصابي يعتدي على الفتاة بعد أن تدسّ خادمته منوّماً في فنجانها وتلقى بعدها إلى شارع الموت الذي يحفل بصوت المدافع والتفجيرات، إلى أن تتحول لعبة الأقنعة إلى مواجهة حقيقية بين المخرج وممثلته بإيهامه أنها رمت في وجهه ماء النار، ولم يكن سوى ماء طبيعي قصدت بها إقناعه بموهبتها. في قمة التوتر بين الخوف والمفاجأة، تدخل زوجته (مجد نعيم) مؤنبةً إياه لعدم تناول الدواء الذي وصفه طبيبه النفسي. يأخذ ديكور المسرح شكل بيت حاول المريض/ المخرج تحويل أدواته إلى معدات للسينما، لنعرف أنّ كل ما سبق عبارة عن تخيّلات لمخرج يحاول تقديم السيناريو ذاته منذ عشر سنوات وليضيء بكلام الزوجة على معاناة المرأة السورية في فترة الحرب.
أيضاً، تمت الإفادة من لعبة الأقنعة، إذ وظفها المخرج في الحيوات المفترضة التخيلية لاستحضار معان لشخصيات تتداخل بين الوهم والواقع لتعطي دلالتها بشكل مضمر، فكان القناع الأول ما عرف باسم قناع Vendetta الشهير الذي استخدم في أفلام سينمائية وتلفزيونية عدة. أضف إلى ذلك الأداء المتميز للممثل عامر علي في شخصيته المركبة التي عكست أوجهاً متعددة للحالات النفسية العميقة التي تعتمل في داخله في مخاتلة المتلقي بالإيهام. بعد أن يقتنع المشاهد بأن المخرج يعمل على انتقاء بطلة لفيلمه ويدخلنا في الأجواء الكابوسية التي جسدت مشهديات من واقع الأزمات التي عاشها أغلب السوريين والمكاشفات العميقة والارتكابات التي حفرت في الوجدان واستعصت على النسيان لتخلف عطباً نفسياً لا يمحى، كشف عن تداعي الحوار بين المخرج والممثلة في تجربة نوعية في تلوين العمل المسرحي بمشاهد من السينما العالمية كخلفية للعمل من أفلام فرنسية وإيرانية وإسبانية (المادة الفيلمية من تصميم «طارق عدوان»). كما لوّن العمل بلوحات تشكيلية من النوع الذي يثير أسئلة وانتقادات ومخاوف حول تقبل الجمهور لها مثل لوحات يوسف عبدلكي في آخر معرض له «العاريات» وبعض الأعمال الأخرى لسعد يكن وسبهان آدم في توظيف ناجح لتداخل الفنون البصرية والسمعية. يقول الكاتب بأنّ عمله بمثابة تحية لفن السينما الذي تراجع دوره في الفترات الأخيرة كونه صار يتابع على شاشات الموبايلات أكثر منها على الشاشة الكبيرة وبقيت صالات السينما للمهرجانات والعروض الخاطفة أكثر منها تقليداً شعبياً يرتاده الناس في دور السينما.
لا نملك إلا التحية لفريق العمل الذي أتاح لنا متعة بصرية باذخة رغم ما اعتراها من غصات قاسية قساوة الواقع كعمل صارخ يحمل وجع المجتمع وواقع الإنسان الذي يعيش شرط الحرب بكل آلامها وكارثيّتها.