«لن يستطيع أيّ حيز في الوجود شبك الجسد والتعبير بواسطة تقنياته سوى المسرح، وسوى الاختيال على هذه الخشبة التي يعتليها الجسد لتفكيك مكنوناته وتفجيرها، فتنجلي بجمالية تعبيرات الحركة والموسيقى»، تلك كلمات وطفاء حمادة، أستاذة النقد المسرحي في كلّية الآداب في الجامعة اللبنانية، وفي المعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت، وعضوة «تجمّع الباحثات اللبنانيات» التي غيّبها الموت أمس بفعل مضاعفات فيروس كورونا. من موقعها الأكاديمي النقدي، رصدت حمادة ولادة وتطور المسرح العربي في بيئة دينية تحريمية، وتطوراً في أجواء سياسية قامعة مقارنةً بالحاجة الطبيعية للمسرح إلى بيئة ديمقراطية. تناولت بمبضع النقد والتشريح إشكاليات معقّدة مثل عجز المثقف العربي عن الإسهام في خلق الفضاء الحر للمسرح، وافتقار المتلقّي للعقل النقدي الحر، والتابوهات التي تحكم الرؤية الفكرية التي يجسدها المسرحي في نتاجه، وكذلك لجوء بعض المسرحيين إلى توظيف التراث لفقدان الحيز الحر للتعبير عن الواقع السياسي والاجتماعي المعاش. كما أن لوطفاء حمادة عدداً من الدراسات حول المسرح وتأصيل الهوية العربية، والمسرح الجامعي، ومسرح الجيل الأكاديمي الجديد، والنسوية في المسرح، والنقطة الأخيرة حازت عنايتها بشكل خاص. إذ كانت تعتبر أنّه لم يكن في بدايات ظهور النقد، ضرورة للتصنيف بين نقد رجالي ونقد نسوي، فالرجل هو الذي وضع مفهومه ومعاييره، لكنّ الانزياح إلى التعبير عن الذاتية في النص النسوي هو العامل الأقوى الذي يعيد تشكيل علاقات القوى الجندرية. تمخّضت هذه الإسهامات عن مؤلّفات عديدة أغنت المكتبة العربية في ميدان الأدب النقدي والبحثي المسرحي، منها «المرأة والمسرح في لبنان»، «السير الشفوية للمرأة الفنانة ومسارات التطور»، «الشباب المسرحي العربي المهاجر بين الأنا والآخر»، «سقوط المحرمات: ملامح نسويّة عربيّة في النقد المسرحي»، وصولاً إلى كتابها الأخير «المواطنة وتجلياتها في الفنون البصرية والمشهدية رؤية الشباب اللبناني» (دار التنوير ــ 2020). أشارت حمادة في كتابها إلى العديد من العوائق التي تعيق تحقيق مواطنية كاملة، أولها الطائفية التي تعزّز مكانة الزعيم وتروّض المواطن، وتحرمه صفة المواطنة لقاء انتمائه الطائفي الذي يكرّس زعامة زعيم الطائفة. من موقعها كناقدة لأول فن قائم على الحوار والديمقراطية والفضاء المشترك، وضعت إصبعها مباشرة على الجرح: «بسلاسة صار اللبناني كائناً طائفيّاً، غافلاً عن حقوقه كمواطن، إذ جعله زعماء الطوائف تابعاً لهم، وصارت مستلزماته المعيشية وحقوقه في كل المجالات الوظيفية وغيرها، خاضعة لسياسات الزعيم ورضاه». لذلك أصرّت أن تقطع الشوط ذهاباً وإياباً بين المسرح والسياسة منطلقة من الإشكاليات الراهنة مثل كيفية بناء المواطنة لمواجهة الانتماء إلى الطائفة، وتحقيق العدالة في لبنان، وكيفية ترسيخ مفهومها في فنون الشباب. لذلك اعتمدت على ممارسات الشباب الفنية، وهذا الرهان على الشباب مردّه إلى أن «الدراسات والبحوث التي تتعرّشها بعض العناوين العامة لا يمكن أن تكون ذات أهمية في رؤيتها الفكرية والفلسفية بدون مستدل تطبيقي يعزز مساراتها وآفاقها». برحيل وطفاء حمادة، خسر المسرح اللبناني روحاً عشقت «الاختيال على الخشبة».
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا