تغفل المسرحية معنى الحب، ليس ذلك لشحّ وتقصّد في القول، بل بسبب تدفّق حكايات اللقاء والانفصال في عرض «في عين القلب: مشروع الحب» الذي افتتحته «فرقة زقاق» ليلة عيد الحب في 14 شباط (فبراير) في «استديو زقاق». العرض هو عن الحب. لكن هذا الموضوع الكلاسيكي والواسع الذي شغل الأدب والمسرح والموسيقى وكل الفنون، لا يمكن أن يكون اختصاراً لأي عمل، بل يأتي كنقطة بداية تجعله عصيّاً على الحصر. المسرحيّة التي أخرجتها مايا زبيب عن نص كتبه أعضاء الفرقة بشكل جماعي، تعتمد مقاربة متداولة للعب على المفاهيم المبتذلة للحب، بدءاً من اختيار توقيت العرض. كأنما العمل يتوسّل الأبواب السهلة لنبش مشاعر قصوى ومعقّدة، لكن ذلك لن يؤدّي إلا إلى تظهير استحالة القبض على حالة العشق. يستند النص إلى مقابلات، وقصص وتجارب حبّ حقيقيّة لعشّاق من خلفيات متعدّدة. وبقدر ما تتوالى الحكايات والأصوات على المسرح، يبدو العرض بلا مركزيّة محدّدة حتى لأدوار الممثّلين الأربعة (مايا زبيب، لميا أبي عازار، جنيد سري الدين ونصري الصايغ) برفقة الراقصة لؤلؤة غندور، وينضمّ إليهم محمد حمدان في بعض المشاهد. ليست هناك لحظة ذروة واحدة، بل لحظات ذروة كثيرة. كلّ قصّة نستمع إليها مهما كانت مختصرة، تحوي ذروتها الخاصّة. يبدو العمل بأكمله مشرّعاً على هذه اللحظات، التي تنشأ أحياناً بعبثيّة مطلقة، وتنتهي بعبثية مضاعفة، فيما يختبر الممثلون على المسرح لحظات مكثّفة وثقيلة لا تتبدّد مع انتهاء العلاقة. تبدأ المسرحية (80 د) بالممثلين الذين يقصّون ويتلون علينا تفاصيل عشوائيّة مكتوبة على أوراق يحملونها بأيديهم ويرمونها معاً. إنها بقايا العلاقات، وقد تكفي وحدها لاختصار كل العلاقة: كنزة، ملابس داخلية، لوحة. يسعى الممثلون منذ البداية إلى إشراك الجمهور، واستقطاب تفاعله المباشر، كأن يختار كل ممثل شخصاً عشوائياً من الجمهور ليتلو عليه رسالة حبّ. بدلاً من أن نعثر على معنى واحد، يظلّ الطرح الإخراجي عالقاً على عتبة الحب. من ناحية، قد يخدم هذا التشعّب معاني الحب الكثيرة وتشظّيه، واختلافه بين فرد وآخر، وبحسب كل تجربة. إلا أنه أوقع العرض أحياناً في طابع صوتي يقتصر على الإخبار والتوصيف الشفهي لأنواع مختلفة من الحب الأفلاطوني والجنسي والعاطفي والحمّاري. جمل تبدو مألوفة لتوصيف الحالة، نسمعها ونستهلكها كلّ يوم، بعضها من النصائح التي يتبادلها الأصدقاء للتخلّص من علاقة ما. تلعب المسرحية على هذه الجمل المألوفة لغاية أخرى متناقضة، تظهّر هشاشة الحب وقوّته في الوقت نفسه. بدلاً من أن تبحث عنه في معانيه الكبيرة والخيالية، تدعو إلى إخراجه من جيوبنا القريبة. تستعير المسرحية من الحب صفته الأقوى: العماء، فتتجاهل أي سياق خارجي واجتماعي لهذه القصص. طوال العرض، تنحصر العلاقة بين الحبيبين حول ما يختبرانه، وذكرياتهما، وتفاصيل التجربة من الاستغناء ولحظات الجموح، والوهم الذي يتبدّد فجأة.
على المسرح، يختلط سرد القصص بالتمثيل، بالإضافة إلى الأحاديث التي تبدو حقيقية بين الممثلين وهم يحاولون وصف الحب لبعضهم. ينتقل الممثلون من تلاوة القصّة إلى الوقوع فيها عبر مشاهد تمثيلية قصيرة. يصبح المسرح مساحة لثلاثة أبعاد يضاف إليها البعد الواقعي اللحظوي الذي يسعى باستمرار إلى دعوة الجمهور وإخراج الحب من سياق المسرحية. يسعى الإخراج إلى تظهير هذه الحالة الفائضة، وإخراجها عن حدود المسرح، لتبلغ الفضاء اللحظوي للعرض مع الجمهور. بين السرد والتمثيل، يقطع الممثلون هذه الأحاديث، بأسئلة بديهية حول ما يعنيه الحبّ. المشاعر الضائعة، أو الانفعالات التي يطلق عليها الممثّلون أحياناً أنها «حب حمّاري» سيتعذّر توصيف أعراضها الجسديّة والنفسيّة التي تصيب الشخص المغرم، تماماً مثلما يعاني العاشق من وصف مشاعره. هكذا يذهبون إلى الطعام والعلاقة مع الأكل، من اجل هذه الغاية.
سينوغرافيا العرض (نتالي حرب) تظهر كجدار للفصل بين سياقات التمثيل والسرد والأحاديث.
تفصل السينوغرافيا بين سياقات التمثيل والسرد والأحاديث بين الممثلين، وتأتي الإضاءة الملوّنة لتجسد تقلّب الانفعالات

لحظات الذروة الجنسية والجسدية تختفي خلف جدار زجاجي سميك، فيما يجد الممثلون على مقاعدهم مساحة لأحاديث عاديّة ساخرة ودرامية. وحين يعجز الكلام، يظهر جسد الراقصة لؤلؤة غندور من أجل شحن اللحظات العاطفية والجسدية القصوى، عبر رقصة الهيب هوب التي تصل إلى الانهيار أحياناً. لكنها تبدو أحياناً كما لو أنها تحاول شحن ما لا يقدر النص على الوصول إليه، إذ تُسقط بعداً كثيفاً وثقيلاً يتنافر مع سياق العرض. يظل العمل يراوح بين لحظتَي المسرح والواقع الذي يتغلّب في كثير من الأحيان. وفي سياق المسرحة، يخرج الممثلون ببعض الأغراض من خزانة في زاوية الفضاء، فيما يقوم على التبديل الجندري المتقصّد الذي يؤدي فيه بعض الممثلين أدوار عاشقات والعكس. الجمالية المشهدية، بالإضافة إلى السينوغرافيا، تعتمدان على الإضاءة الملوّنة (نديم دعيبس) التي تصبح التجسيد البصري لانفعالات متقلّبة برفقة موسيقى زياد نوفل لأغنيات أندرغراوند لبنانية (من شركة صدع 2012- 2019).
تصل محاولات الفرقة لإشراك المتفرّجين في النهاية إلى نوع من الإكراه الذي يناقض الحب. يفقد الحب تلقائياً أحد سماته وأسراره، حين تدعو مايا زبيب الجمهور في النهاية إلى التواصل معاً، وفق تعليمات جاهزة. هذه المهمّة التي كان على المسرحية أن تقوم بها تدريجاً، تأتي التعليمات لتنتزعها بقوّة. وبهذا تصبح ضرورة الوقوع في الحب سلطة أخرى على المتفرّج، تبدو كوجه آخر للسلطات الدينية والسياسية التي تفرض شروطها عليه.

* «في عين القلب: مشروع الحب»: 20:30 مساء الغد وبعد غد ــ استديو زقاق (الكرنتينا ــ بيروت). للاستعلام: ihjoz.com