«منذ أن اشترى جارنا طائرة بدون طيار للتصوير، ونحن نتحسّس سماءنا. مركبة هوائية جديدة دخلت الحيّ، صوتها لا يخفى على المارّة، يمكنها التقاط ما يحلو لها من صور أو أفلام من عليائها. والـ zoom وما أدراك وأدرانا ما الـ zoom! لا نعلم إن كانت دقّته تصل إلى غرفة جلوسنا أو أنها تبقى عند حدود غرفة النوم في الطبقة الأخيرة. أسئلة جديدة بدأت تتبادر إلى الذهن لم نفكّر بها سابقاً: هل، عندما اشترينا المنزل، حصلنا معه على ملكيّة هذا الفضاء فوقنا؟ وكيف يمكن وقف من يخترق عمداً هذا الفضاء؟»
قد لا ننتظر طويلاً لنرى هذا السيناريو واقعاً في كثير من مدننا. فنحن على أبواب «عصر الدرونز (أو الطيّارات بدون طيار) التجارية»، وهو زمن يشبه في تحدّياته زمن ما قبل دخول السيارات مرحلة الاستهلاك العام في القرن العشرين. حينها كانت المخاوف كثيرة من المتهوّرين في القيادة مثلاً، وكانت القوانين غائبة عن تنظيم السير والطرقات ومنح رخص القيادة.
اليوم، يمكن لأيّ كان شراء طائرة كهذه من بعض المحالّ المختصّة بأدوات التصوير مثلاً. طائرة PHANTOM 2 هي أكثرها رواجاً ويبدأ سعرها من حوالى 700 دولار. الرقم ليس كبيراً بالمقارنة مع ما بات ينفقه هواة التصوير على الكاميرات المتطوّرة وعدساتها. وفي الحالتين، هناك دافع مشترك له علاقة بوسائل التواصل والنشر الحديثة عبر الإنترنت، من يوتيوب إلى فايسبوك وإنستاغرام، التي فتحت أمام الكثير من الهواة منصّة سهلة لنشر الصور وأفلام الفيديو. وبالتالي زاد اهتمامهم بتطوير المحتوى الذي يبثّونه هناك.

عشوائية المشهد اللبناني

في لبنان، دخلت الـ«درونز» إلى المجال التجاري من باب تغطية حفلات الأعراس في الهواء الطلق، وأصبحت هناك زاوية جديدة لتصوير المدعوّين من الأعلى، تستقطب أموال المنظمين. المجال الدعائي أيضاً تأثّر بها، وخاصة لجهة تصوير بعض المناطق السياحية. حتى إنّ هذه التقنية دخلت إلى نوادي هواة الطيران في لبنان، مثل RC Lebanon و«الحبل على الجرار» كما يقول المثل، فدخولها مجالات أخرى كالتغطية التلفزيونية والإعلانات والإنقاذ ليس إلا مسألة وقت.
لكن كلّ ذلك يجري من دون أي قوانين تحدّد الصحيح من الخطأ. قد يكون الحدّ الأدنى لشراء طائرة كهذه لا يزال يحول دون توسيع رقعة المستخدمين إلى حدّ انتشارها بين العابثين. لكنّ هذا سيتلاشى في الأعوام المقبلة، كأي تكنولوجيا أخرى. وليست المشكلة في غياب القواعد المنظّمة أصلاً في القانون، فتلك حال معظم الدول الكبرى. لكن المستغرب في الحال اللبنانية هو أنّ العمل على قوننة خاصة لـ«الدرونز» لم يُثرْ بعد. وإن عدنا إلى قانون سلامة الطيران المدني، نرى أنّ هذه التقنية ينطبق عليها تعريف «المركبة الهوائية» التي هي، بحسب القانون، كل مركبة «تستطيع أن تستمد بقاءها من الجو من ردود فعل الهواء، غير تلك المنعكسة من سطح الأرض». وبالتالي يسري عليها ما يسري على الطائرات الخاصّة من حيث إلزامية تسجيلها في الدولة، وأن تكون لها جنسية معيّنة مثلاً. واستناداً إلى ذلك، فكلّ استخدامات الـ«درونز» من قبل الهواة والمحترفين

في لبنان تُعدّ خرقاً للقانون!

المؤكّد أنّ التكنولوجيا هنا سبقت المشرّع، وأنّ بعض القوانين السارية ستصبح محلّ تندّر بعد انتشار هذه التقنية على نطاق واسع، وأنّه لا نيّة ظاهرة لملاحقة من يعاكس هذه القوانين حاليّاً لأنّه أمر غير منطقي. لكن هذا لا يعني ترك الموضوع من دون تنظيم مُجدٍ على المدى البعيد، وخصوصاً في ضوء الحوادث الأخيرة التي حصلت بسبب الـ«درونز» حول العالم. إسقاط هذه الحوادث على الواقع اللبناني مخيفٌ أيضاً. فلنتخيّل لو أنّ حادثة تهريب موادّ مخدّرة إلى المساجين عبر طائرات كهذه تصل إلى باحة السجن وتعود إلى مطلقها حصلت مثلاً في سجن رومية بدلاً من سجن في ساو باولو البرازيلية. أو لنفترض أنّ حادثة إدخال «درونز» تحمل شعارات استفزازية إلى ملعب كرة القدم حصلت بين فريقي النجمة والأنصار بدلاً من صربيا وألبانيا. ولننظر مثلاً لو وصلت طائرة كهذه إلى بعد مئات الأمتار عن طائرات تجارية تقلّ مسافرين إلى مطار بيروت كما جرى في مطار نيويورك، ماذا كان سيحدث؟ هذه الأمثلة المفترضة تؤدّي إلى خلاصة واضحة: يجب أن تكون هناك أماكن محرّمة على الـ«درونز». وبرغم أنّ القانون اللبناني ينصّ على أنّه «للمحافظة على السلامة العامة، يعيّن وزير النقل الخطوط التي يرى من المناسب أن تتبعها الطائرات في سيرها،» فإنّ أيّاً من هذا لم يحدث حتى الآن مع الـ«درونز».

رسم طرقات الـ«درونز»

عالمياً، هذا ما يعمل عليه بعض خبراء التصميم والتخطيط العمراني، مثل «ميتشيل سايبس» الذي قدّم أوّل نموذج لتنظيم تحليق الـ«درونز» فوق مدينة شيكاغو الأميركية. يقوم مخطّطه على أساس تقسيم المدينة إلى أربعة ألوان: المنطقة الخضراء حيث الـ«درونز» مسموحة بشكل عام، وهذا في المساحات المزروعة أو التي فيها بحيرات والتي تندر فيها التجمّعات وتغيب عنها المراكز الحسّاسة، المنطقة الصفراء حيث المباني السكنية التي يُمنع التحليق فوقها نهاراً ويُسمح ليلاً على علوّ معيّن، المنطقة البرتقالية حيث يُمنع التحليق ليلاً فقط نظراً الى وجود مراكز مراقبة للفضاء مثلاً، والمنطقة الحمراء التي يُمنع فيها تحليق الـ«درونز» بالكامل. وبحسب صحيفة «نيويورك تايمز»، فإنّ وكالة الفضاء الأميركية «ناسا» لديها مشروع مشابه يتضمّن أيضاً تنظيم سير هذه الطائرات في السماء لتفادي الحوادث، كما يحصل مع الطائرات المدنية. والتحدّي الأكبر هنا أنّه لا يمكن إحصاء جميع المشغّلين للطائرات والتواصل معهم دائماً لمنع الاصطدام أو حظر الدخول إلى المناطق المحرّمة. لكن على الأقل، قد يفتح هذا النظام الباب مجدّداً أمام تشريع الـ«درونز» لأسباب تجارية كتوصيل البضائع، وهو ما كانت السلطات الأميركية قد منعت شركات مثل أمازون من تنفيذه سابقاً.

متى يمكن إسقاطها؟

ولا تنتهي الإشكالية في دخول الأماكن الخاصة عند مسؤولية الدولة. فإحساس المواطن باختراق خصوصيته من الـ«درونز» قد يدفعه إلى أخذ المبادرة بالدفاع عن النفس عبر إسقاط هذه الطائرات في حال اقترابها منه، وهذا لم يعد ضرباً من الخيال، بل هو واقع أثبتته حوادث عدّة، آخرها ما حدث في ولاية نيو جيرسي الأميركية من إسقاط رجل طائرة بدون طيار مجهّزة بكاميرا حلّقت فوق منزله. هناك حالات أكثر تطرّفاً مثل رجل في ولاية كولورادو دفع بلدته إلى التصويت على قانون يمنح 100 دولار لكلّ من يسقط طائرة توصيل من أمازون. أمّا بحسب القانون اللبناني مثلاً، فـ«لا يجوز للطائرات التجول فوق الأملاك الخاصة بطريقة تعوق المالك عن استعمال حقه»، ولكن في الوقت نفسه، فإن «العبث بمركبة هوائية أو بأي جزء منها يخضع للعقوبة.» فإذا عطفنا أوّل نص على حق الدفاع عن النفس نصل إلى خلاصة، وإذا نظرنا إلى النصّ الثاني، نصل إلى خلاصة معاكسة. فهل من المبرّر للمالك إسقاط الطائرة؟ هذه الإشكالية هي موضع بحث قانوني أُجري في جامعة ميامي الأميركية، خلاصته أنّه قد يُسمح بإسقاط الطائرة في حالات اتضحت فيها النية التجسّسية، ولكن يجب أخذ كل واقعة على حدة كي لا يتحوّل ذلك إلى أمر طبيعي يستهدف أيضاً طائرات تسيّرها الدولة مثلاً.
في النهاية، قد لا يكون خطر ترك الـ«درونز» في لبنان على عشوائيتها الحالية جليّاً في الوقت الحاضر، لكن حين نرى في العقد المقبل توصيل النرجيلة إلى المنازل عبر الـ«درونز» التي تطوف بين الأبنية بدلاً من تنقّلها بين السيارات، قد يستفيق المشرّع إلى ضرورة القوننة. وعندما تبدأ «عقيدة القلعة» بالظهور، حيث كل شخص يدافع عن ملكيته وكأنّها قلعته ولو بمضاد طائرات منزلي، فسنبدأ بحلّ الموضوع «ربّما»، ولو من نهايته. نقول «ربّما» لأن عجلة القوانين في لبنان بطيئة إلى حدّ الموت، ولأنّ قانون سلامة الطّيران المعدّل عام 1955 والذي يعاقب من يسيّر الحمام الزاجل لمّا يُلغَ بعد... فـ«بكّير على الدرونز!»