في فلسطين يسمّونها «الزنّانة»، وفي سوريا «الطنّانة»، ولعلّها من أقرب الترجمات وأقصرها إلى الأصل الإنكليزي «Drone»، أو ما يعرف بالطائرة دون طيّار. شهرة هذه الطائرات في بلادنا رفدتها أرواح الكثيرين ممّن حصدتهم الـ MK الإسرائيلية والـ Predator الأميركية في العراق وليبيا واليمن وفلسطين ولبنان، حتى وصل تعداد من قُتلوا بضربات الأميركية منها خلال خمس سنوات من عهد الرئيس باراك أوباما إلى نحو 2400 شخص.

إلا أنّ من باب «الإنصاف»، لا بدّ من الإشارة إلى ما تعرضه تقارير أميركية بشيء من الزهو عن أنّ هذه الضربات لم تعد تقتل ما معدّله ثلاثة مدنيّين في كلّ مرّة كما في عهد جورج بوش، بل تقلّص هذا المعدّل إلى 1.43 مدنيّ (أي شخص وبضعة أشلاء من آخر).

من القاتل إلى الرفيق

وعلى الرغم من ذلك، لم يعد اسم «الطنّانة» في العالم مرتبطاً بالحرب حصراً، بل إنّ مسيرة تحوّلها من قاتل إلى رفيق باتت على جناح وساق، حيث يتوقّع تقرير من «Business Insider» أن تحتلّ مبيعات الـ«درونز» التجارية خلال العقد المقبل ما نسبته 12% من 98 مليار دولار ستصرف على هذه الطائرات عموماً. وكما فعلت تكنولوجيات سابقة، من المتوقّع أن تنعكس هذه على سوق العمل، حيث قد تزوّد السوق الأميركية وحدها بمئة ألف فرصة عمل إضافية بين 2015 و2025. وفي طليعة المهن التي سيطرق التغيير أبوابها مهن الصحافة والزراعة والإنقاذ.

صحافة الدرونز

خلال تظاهرات حركة «احتلوا وول ستريت» الأميركية، برز الصحافي «Tim Pool» عبر استخدامه طائرة «Parrot» معدلة لتأمين البث الحيّ للتظاهرات من الأعلى، وهو ما استلهمه متظاهرون في مختلف الأماكن من العالم، فأُعيدت التجربة في كييف وإسطنبول وبانكوك. الفكرة بحدّ ذاتها قديمة، إذ تمتلئ ذاكراتنا القريبة والبعيدة بمشاهد طائرات الجيوش تصوّر التظاهرات، لكن الجديد هنا في نواحٍ ثلاث: أوّلاً في أنّ هذه الطائرات أصبحت في مرحلة الاستهلاك، حيث يبدأ سعر «الطنّانة» المزوّدة بكاميرا فيديو بضع مئات من الدولارات. وثانياً أنّها أصبحت في أيدي الهواة، الذين لا سيطرة مباشرة عليهم، ولا حجب لما يمكن أن يبثّوا مباشرةً. وثالثاً أنّ استخدامها سبق قوننتها، حيث تغيب القواعد التي تنظّم عملها عن معظم دول العالم.

يتوقّع أن تحتلّ مبيعات الـ«درونز» التجارية ما نسبته 12%


وبما أنّ هذا المسار يُتوقّع أن يدخل في عمق المهنة، أدخلت جامعتا «نبراسكا لينكون» و«ميزوري» الأميركيتان إلى اختصاص الصحافة أبحاثاً تحت عنوان الـ«Drone Journalism» أو «صحافة الدرون». تُعنى هذه الدراسات ببحث الاستخدام الأمثل لهذه الطائرات، والقواعد القانونية التي يجب أن ترعاها. وتركّز على النواحي الأخلاقية والمجتمعية أيضاً التي تترافق مع عملها، وخصوصاً أنّنا نتحدّث عن حقّ الطائرات بالدخول إلى الفضاء العام أو الخاص، وهو ما تتداخل فيه هواجس الخصوصية والأمن. وخير ما يعبّر عن ذلك أنّ استطلاعاً لرأي الأميركيين أجراه مركز Pew هذه السنة أظهر أنّ 63% منهم يرون الاستخدامات التجارية والشخصية لـ«الدرونز» على أنّها تغيير نحو الأسوأ.

الزراعة الدقيقة

من بين كلّ التطبيقات، يتوقّع للزراعة أن تأخذ الحيّز الأكبر من تطبيقات «الدرونز»، لما تحمله هذه الأخيرة من فوائد جمّة على زيادة الإنتاج، وخصوصاً في الحقول الواسعة التي يحتاج الإشراف عليها إلى جهد بشري مضنٍ. الطريقة التقليدية للعناية بمثل هذه الحقول هي أن تُروى كلّها بنفس الكمية، وأن تعطى نفس كمّية الأسمدة وتُرشّ بالمبيدات الحشرية ذاتها. لكنّ نتيجة اختلاف استعداد المزروعات وللظروف الطبيعية الأخرى، يختلف النموّ بين مناطق مختلفة من الحقل ذاته. ولحلّ ذلك، على المزارعين أوّلاً أن يجوبوا مسافات واسعة كي يكتشفوا هذه المناطق، ومن ثمّ أن يقوموا بإعطاء كلّ منها ما تحتاجه من مياه وأسمدة ومبيدات. وعادةً لتخفيف الجهد، يقومون بإعادة ريّ الحقل كاملاً، وهو الحلّ الأسهل بالتقنيات التي يستخدمونها، مع ما يترتّب عليه من كلفة إضافية وضرر بيئي أحياناً.
أمّا بوجود الـ«درونز»، فالهدف هو أن يصبح كل ذلك أوتوماتيكياً، استناداً إلى مبدأ «الزراعة الدقيقة». إذ تقوم هذه الأخيرة على قياس الاختلاف بين المزروعات جغرافياً وكذلك ملاحظة تغيّر كل جزء منها مع الفصول عبر تصوير الحقول بكاميرات خاصة. وبناءً على ذلك، يجري تحليل الصور تلقائياً ويُعطى المزارع النتيجة النهائية للعملية. التحدّي التقني في هذه العملية هو تحقيق التوازن الأفضل بين عوامل نموّ الزرع وحماية البيئة وتخفيف المصاريف، وهو ما تدور حوله الأبحاث في هذا المجال. أمّا التحدّي البشري، فهو التعاون مع المزارعين لتعليمهم هذه التقنيات كي يصبح استخدامها الفعّال جزءاً من يومياتهم، وهذا ما لا يحصل أيضاً دون واجهة مستخدم مبسّطة لهذه الأدوات.

دور المنقذ

أمّا حيث تبرع الطنّانة في إنقاذ الحيوات، فهي في إعانة رجل الإنقاذ. لا تنقصها الشجاعة طبعاً لاختراق مواقع الأعاصير أو الكوارث. وأحياناً تنجح حيث تفشل طرق الإنقاذ التقليدية. إذ سجّل عام 2013 أوّل حالة إنقاذ عبر هذه الطائرة في كندا، فنجحت طائرة Dragan Flyer في إيجاد ناجٍ من حادث سير ليليّ عبر تعقّب حرارة الجسد، وهو ما فشل في فعله كلّ من رجال الإسعاف وطوّافة إسعاف بمناظير ليلية.
وإلى حرارة الجسد، تمكّن باحثون في جامعة EPFL في سويسرا من تطوير تقنية تتعقّب الشخص الضائع عبر إشارة الـ«واي فاي» الصادرة عن هاتفه، ومن ثمّ تحدّد موقعه عبر قياس قربه من جهاز توجيه الإنترنت. وكذلك تقيس قوّة تلك الإشارة لتحديد ما إذا كان الشخص مطموراً في عمق الأرض في حالات الزلازل. ويمكن عبر نفس هذه الطائرة توفير الـ«واي فاي» لمن هم محجوزون في مناطق مغلقة في أثناء الكوارث لتأمين التواصل مع الخارج.

بين صناعة الموت وصناعة الحياة

سبعون صحافياً على الأقلّ قُتلوا عام 2013، أكثرهم في مناطق النزاع، خلال التحامهم بالمتظاهرين أو المقاتلين. الرقم أكبر بكثير لمن ماتوا نتيجة طول التعرّض للشمس وتنشّق المبيدات الضارّة. وعلاوة على ذلك، يشكّل ضحايا الكوارث جزءاً كبيراً من أعداد الوفيات حول العالم. التحدي الأبرز هو: ما هي قدرة الطائرات من دون طيّار على أداء دور صانع الحياة لهؤلاء الناس، بعد أن رافقت صناعة الموت اسمها طوال السنين الماضية؟ الجواب على هذا بيد طرفين: الدولة من جهة لقوننة استخدامها على نطاق واسع، والشركات الباحثة والمطوّرة من جهة أخرى لتوفير التقنية الأفضل. وهؤلاء هم من سيمنحون بعض أنواع الـ«درونز» فرصة التكفير عن فعائل أجدادها. وإن كان الشكّ كبيراً في إمكانية توبة معظم أقرانها عن نهش حياة الكثيرين في الوقت نفسه.