أسطورة حبة الدواء التي يأخذها الناس فتغنيهم عن الطعام ما زالت تلاحق العلماء على مرّ السنين. يُسألون عنها كقدر لا بدّ من أن تصل إليه البشرية. عليها عوّل البعض كحلّ للمجاعات، ونقص التغذية، حتى أنّ بعض النسويّات قد نظرن إليها منذ القرن التاسع عشر كحلّ متخيّل لإعفاء المرأة من العرف السائد في تولّي تحضير الطعام. ويعتقد كثير من العلماء اليوم أنّ الوصول لمرحلة توضع فيها وجبة في حبة هو مستحيل في المدى المنظور، لعدم القدرة على توفير كل المكوّنات الغذائية والمغذّيات الدقيقة التي يعطيها الطعام في تلك الحبة، ولذلك ينحسر دورها في متمّمات غذائية لا يمكن أن يحيا بها الناس حصراً على المدى البعيد.
في أن تشرب غذاءك

لكن على قاعدة ما لا يدرك كلّه، لا يترك جلّه، كان لسان حال كثيرين: «إذا كانت الحبة هي العائق، فلنغيّر الخطة، ولنجعلها شراباً». وبهذه الروحية انطلق روب راينهارت، مهندس الكومبيوتر الذي اخترع «سويلنت» (Soylent)، وهو شراب يحتوي على مختلف المغذّيات التي يحتاجها الجسم كل يوم، من بروتينات ونشويات ودهون وغيرها، انطلاقاً من الدراسات التي بنى عليها والتي أوصلته إلى تركيبتها المثلى، التي جرّبها على نفسه في البداية وعلى بعض المتطوعّين لاحقاً.
يعامل راينهارت «سويلنت» وكأنّه برنامج كومبيوتر، فهو أوّلاً شراب مفتوح المصدر (open-source)، أي أنّه أعلن مكوّناته على الإنترنت، ما استقطب كثيرين حول العالم ليجرّبوا تجميعه بأنفسهم. وبناء عليه، ظهرت وصفات جديدة ترتكز إلى الوصفة الأصلية، وذلك لإضفاء نكهات جديدة أو لاستبدال مكوّن بآخر في حال الحساسية تجاهه. ثمّ أنّ الشراب، كالبرامج، جرى تحديثه مراراً ليأخذ بعين الاعتبار انطباعات المستخدمين.
ثلاثة عوامل أساسية كانت وراء هذا الشراب: المال والوقت والصحة. يريد راينهارت أن تصبح تكلفة الشراب خمسة دولارات في اليوم، وهي أقلّ بثلاث مرّات تقريباً من تكلفة طعام صحّي يوازيه بالسعرات الحرارية.  وهذا ما جعل «سويلنت» بديلاً محبّباً لبعض الطلاب الأميركيين، من غير أصحاب الدخل، أو من الذين لا يملكون الوقت اللازم لتحضير الطعام. فبين شراب صحّي سريع ورخيص وبين مأكولات سريعة أكثر كلفة وإيذاء للصحة، لجأ هؤلاء إلى الخيار الأوّل.

تحاول شركة
«Beyond Meat» إيجاد بديل من
الدجاج واللحم

على أنّ هذه الميّزات قد لا تجتذب الغالبية لترك الأكل التقليدي والتحوّل إلى «سويلنت» لأنّ الطعام ليس فقط غذاء بل هو، للغالبية، طقس له متعته وفوائده. فالوجبات اليومية، مع كل ما تتطلبه من تحضير أو ما يتبع تناولها من آثار كالتخمة أو النعس، تبقى مناسبة أساسية للاجتماع بالعائلة أو الأصدقاء. ولا يمكن للناس أن يستبدلوا هذه العادات واستمتاعهم بألوان الطعام ونكهاته اللامتناهية بثقافة الـ»سويلنت». وهو ما يدركه مخترعه الذي يحاول تسويقه على مبدأ أنّ «الطعام كغذاء» لا يستبدل «الطعام كثقافة»، بل يجعله ثانوياً عند الحاجة.

طعام للمليارات التسعة

من جهة أخرى، لا يذهب كل العاملين في تكنولوجيا الغذاء إلى ذلك الحلم المتطرّف بعض الشيء، ويعتبرونه كالسمكة الصغيرة التي لا تعود بالمردود الكبير حالياً. وبالتالي يتوجّهون إلى السمكة الأكبر، وهي استبدال مكوّنات الطعام بمكوّنات مصنّعة. الهدف صعب، وفي منظارهم ثلاثة أهداف أساسية: البيض والدجاج واللحم.
الدافع هنا اقتصادي أوّلاً: من أين سيأتي الغذاء الطبيعي لأكثر من تسعة مليارات متوقّعة من البشر في نهاية هذا القرن؟ ثم أنّه بحسب مؤسس شركة «Hampton Creek»، جوش تيتريك لا يمكن الاستمرار بالنموذج الحالي، حيث توضع الطيور والدجاج في أقفاص لا مكان فيها لتحرك أجنحتها ويتوقّع منها أن تبيض 283 بيضة سنوياً في ظروف غير ملائمة ومشوبة بالأمراض، وحيث تحرق 39 سعرة حرارية من الطاقة لإنتاج سعرة حرارية واحدة من الطعام.
تعمل هذه الشركة على إنتاج البيض الصناعي، الذي يمكن أن يستخدم في المايونيز أو الحلويات أو أن يؤكل مطبوخاً. وقد وضع المستثمرون أكثر من 30 مليون دولار في تصرّفها، لاكتشاف المكوّنات الضرورية لجعل البيض الصناعي أقرب ما يمكن إلى الحقيقي، ليس فقط من ناحية القيمة الغذائية بل من ناحية الطعم أيضاً والخصائص التي يتميّز بها والتي تجعله مفضّلاً في صنع الحلوى وفي بعض السلطات أو العجين وغيره، وهذا ما يجعل مهمّة «Hampton Creek» أصعب من مهمّة «سويلنت».
وعلى خط مواز، تعمل شركات أخرى. فـ»Beyond Meat» تحاول إيجاد بديل من الدجاج واللحم بنفس طعمهما وخصائصهما الغذائية، وقد وضعت رؤية طموحة بتقليص استهلاك اللحوم بنسبة 25% بحلول عام 2020 واستبدالها بلحوم مكوّنة من بروتينات نباتية. وكذلك تقوم شركة «Modern Meadow» بالعمل على لحم حقيقي من دون الحاجة إلى مزيد من الأبقار، وذلك عبر تقنية بيولوجية تسمّى «هندسة الأنسجة» تنتج في 45 يوماً في المختبر كمية اللحم التي تتطلّب سنتين أو ثلاث من تربية الحيوان قبل قتله وأخذها منه.

النحت مقابل البناء

الفرق بين الطعام الطبيعي والطعام المصنّع من حيث الموارد اللازمة هو كالفرق بين نحت تمثال، باستخدام صخرة كبيرة، وبين بناء التمثال من قطع صغيرة. ففي الحالة الأولى يبذّر جزء كبير من الصخرة في سبيل رسم الشكل النهائي، وهو حال طعامنا الحالي الذي نستهلك لإنتاجه أضعاف ما يعطيه من الطاقة. أما البدائل التي تطرح لتصنيع الطعام فهي تحاول أن تصل إلى الطعام عبر تجميعه من موادّه المكوّنة، طارحة الأثر الإيجابي على البيئة كأحد أبرز ميزاتها.
لكن الصعوبة الأبرز في حالات اللحوم البديلة هي في تسويقها للناس ليتخطوا الحاجز النفسي المانع لتجريبها، وذلك كي لا يقتصر استخدامها على فئة النباتيين حصراً.
أمّا «السويلنت» فتسويقه أصعب على نطاق واسع، إذ لا يمكن الاعتماد حالياً حول العالم على شركات خاصّة لتوفّر الطعام للمليارات. فبرغم وصفاته المنتشرة، يحتاج تجميع مكوّناته من مصادرها، إلى طلبات خاصة من مختبرات كيميائية، وهو ما لا يتوفّر بيسْر لمعظم سكان العالم. وهو بذلك يذكرنا بأطباء الأعشاب التلفزيونيين في منطقتنا، الذين يعطون وصفات الكريمات على الهواء، والتي يحتاج الشخص لتصنيعها مثلاً لزيت الورد وزيت اللوز والزنجبيل والكركم والشومر وبذر الكتّان (فقط لا غير). ثم «تخلطها وتنحّف جسمك» (الذي نحف في تجميعها أصلاً)! وهذا ما يلزم التفكير بحلّه لـ»سويلنت» قبل أن يفكّر مخترعوه في هزّ اقتصاديات الغذاء والزراعة حول العالم.