من أبرز الدعايات المضللة التي تطلقها الحكومات هي أنها لا تتنصّت على مواطنيها بل إنها فقط تخزّن ما يتعارف عليه بـ«داتا الاتصالات» (المسمّى علمياً بـ«ميتاداتا الاتصالات» metadata)، أي النسخة «اللايت» من التنصّت، التي تتضمّن «ببساطة»: من يتصّل بمن، في أي وقت، ومن أي مكان؟
يبدو ذلك كافياً لإعطاء المواطن شعوراً بالأمان، مردّه إلى أن لا أحد يسمع مكالماته الخاصة أو يتجسّس على أسراره. لكن الحقيقة أن معظم الحكومات أصلاً غير قادرة على الاستفادة من التنصّت بنفس قدرتها على استثمار «الداتا». فمن جهة، لا يوجد ما يكفي من الموظفين للاستماع إلى مكالمات كل الناس، ومن جهة أخرى لا تتوافر التقنيات التي تحلّل الصوت في هذه المكالمات إلكترونياً إلا لبعض الدول.

الأميركيون ولهجات العرب

الدول العربية مثلاً لم تنتج حتى الآن تقنيات بدقة عالية تخوّلها تحويل محتوى الصوت إلى نص يمكن البحث فيه عمّا يثير الاهتمام. وللمصادفة أن هذه الأبحاث تجري في مكان آخر: تدعم «داربا»، أي الذراع البحثية لوزارة الدفاع الأميركية، مشاريع في كبريات الجامعات الأميركية (واشنطن، إيلينوي، كولومبيا…) لتحليل الصوت باللهجات العربية، وليس الفصحى فقط. وبالطبع، تستخدم نتائج هذه الأبحاث في التنصّت على العرب في الولايات المتحدة، أو في غيرها من الدول، كالعراق مثلاً، إذ تحوم شكوك حول هذه الدولة التي لم تسمّها صحيفة «واشنطن بوست» حديثاً حين تحدثت عن امتلاك الأميركيين جميع تسجيلات المكالمات لسنة كاملة في دولة ما.

مَنجم الداتا

ثمّ إنّ الاستفادة من جميع هذه المكالمات الصوتية تحتاج إلى تكريس مساحات ضخمة ومعدّات متطوّرة ووقت طويل لتحليلها. ولذلك فإن «داتا الاتصالات» هي المنجم حيث الكنز الحقيقي للحكومات. وفعلياً قد تغنيها في أغلب الأحيان عن التفكير بتحليل الصوت ومحتواه، أولاً لسهولة معالجة «الداتا»، عبر تقنيات تتبادلها أجهزة الاستخبارات منذ سنوات، وثانياً لأن الغطاء القانوني لذلك سهل التأمين، وخصوصاً في الدول التي لا تولي الخصوصية شأناً معتبراً.
على أن الخطر على الخصوصية جرّاء هذا الكنز لا يزال غير مرئي بالنسبة للغالبية الساحقة. لا أحد يخبر هذه الغالبية أنّ الحكومة باستطاعتها معرفة أمراض كل فرد منها عبر هذه الداتا. كيف ذلك؟ ببساطة لا يخفى على أحد أن أرقام عيادات الأطباء والمستشفيات موجودة للعلن في مجلدات إلكترونية مثل «الصفحات الصفراء». وبالتالي، من يتصل بشكل مفاجئ بعيادة طبيب أعصاب هو على الأغلب يعاني من مرض عصبي. ولنتخيّل كيف يمكن لبعض الحكومات استغلال أمراض السياسيين مثلاً في الضغط عليهم. وبالطريقة نفسها، تعرف الحكومة مواعيد حمل النساء ومواعيد ولاداتهنّ من خلال تحليل نمط اتصالاتهنّ بالأطباء المختصين بذلك.
قد تصبح
معلومات الناس وخصوصياتهم للبيع في سوق الفاسدين


وللاستخبارات أن تستخدم هذا الكنز في معرفة مكان منزلك: هو المكان الذي تتواصل فيه ليلاً في أغلب الأحيان. قد لا يكون هذا مهمّاً لوحده. ولكنه يمهّد الطريق لأمور أخرى: الاستخبارات تعرف متى تكون خارج هذا المنزل ومتى تعود إليه، وتعرف مع من تكون خارجه. ومع من توجد داخله. وبالتالي فعندهم فكرة مثلاً عمّا إذا اقترعت في الانتخابات في يوم ما أو بقيت في منزلك. وعلاوة على ذلك: الاستخبارات قد تستخدم كنز الداتا في معرفة شريك حياتك مثلاً، إذ توصّل باحثون من جامعة «ستانفورد» الأميركية إلى أن في 60% من الحالات، الشريك هو صاحب الرقم الأكثر طلباً على الهاتف، وفي 70% من الحالات، الشريك هو صاحب الرقم الأكثر تلقياً للرسائل النصية. هي إحصاءات بسيطة إذاً، تعرّف الحكومة أيضاً على معتقدك الديني، وفيما إذا كنت تمارس هذا المعتقد فعلياً أم لا (كتفرّغك لذلك في وقت معيّن يوم الجمعة أو السبت أو الأحد)، وقد أظهر الباحثون دقة في معرفة ذلك المعتقد بنسبة 73%. وللاستخبارات ساعتئذ أن تراقب مجموعات دينية معيّنة وتحصي أعضاءها وتتجسّس عليهم بوسائل أخرى.
بالطريقة نفسها، الداتا تخوّل الدولة معرفة خطك السياسي وعلاقاتك الاجتماعية من زواج وطلاق وحتى تبرّعاتك للجمعيات، وغير ذلك الكثير ممّا قد ينعكس أقلّه على وظائف القطاع العام فيما لو استثمرتها الحكومة، وقد يصل الأمر لأن تُستغلّ هذه المعلومات في ابتزاز الأفراد.
الإشكالية في الموضوع أن هذه الداتا ضرورية في أيدي شركات الاتصالات ومن دونها لا يتمّ الاتصال ولا يمكن تحصيل الرسوم من المشتركين. لكن ذلك لا يتطلّب أن تنتقل الداتا إلى الدولة أو إلى دول أخرى: هذا ما يجب أن يخضع للقانون. في الولايات المتحدة مثلاً، هناك ضغط لإنهاء تحليل الداتا بشكل محدّد ولضرورات معيّنة وبأمر المحاكم، وقد وصل الامر الى حد تحرّك البعض ينادي بقطع المياه المسؤولة عن تبريد الأجهزة في مركز وكالة الأمن القومي في ولاية «يوتا» لعلّ الوكالة تتوقّف عن التجسّس على المواطنين. على المقلب الآخر، الأمر في لبنان مثلاً متروك في كثير من الأحيان لتقدير الوزير شخصياً أو الحكومة مجتمعة، والتي تختلف قراراتها باختلاف أهوائها السياسية.
ومع تطور التقنيات اللازمة لتحليل الداتا، وتشعّب ما يمكن استنتاجه، سيزيد الاهتمام من جهات غير الأجهزة الأمنية بها. وبوجود الفساد، قد تصبح معلومات الناس وخصوصياتهم للبيع في سوق الفاسدين. ومن دون قوانين تحكم أمد احتفاظ الشركات والاستخبارات بالداتا ووجهة ذلك، قد نصل إلى وقت لا يثق فيه الناس بشبكة الدولة، ويتجهون إلى وسائل الاتصال عبر الإنترنت (مثل Skype وViber) طمعاً بخصوصية أكبر، وهو ما لا يوجد ضمانة له، حتى في حال بعض الهواتف المشفّرة محادثاتها. فالمحتوى سهل الإخفاء لكن الحركة سهلة الكشف، وهو ما يبقي هذا المنجم أكثر أهمية من ذي قبل، خصوصاً أمام تعاون الشركات والدول.