في عصر الاتصالات والتكنولوجيا، تتسارع الأحداث ويتسارع معها السباق نحو إنتاج تكنولوجيات أكثر حداثة ترتبط بجودة الخدمة، من جهة، ومستوى الأمان من جهة أخرى، وخاصة إذا ما ارتبطت تلك التكنولوجيا بشبكة الإنترنت، لأنها تتطلب جهوداً فنية أمنيّة إضافية تتمحور حول إيصال المعلومات بشكل آمن وسرّي.
كل ذلك ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالتشفير الذي يعدّ العمود الفقري لأيّ تواصل آمن. فأيّ عملية إرسال معلومات لا تمرّ عبر التشفير هي معرّضة حتماً للسرقة والكشف. ولم يرتبط التشفير فقط بعالمنا الرقمي الحالي إنما كان عبر السنين الأسلوب الأوحد لنقل رسائل أمنية من مكان إلى آخر عبر الخريطة الجغرافية. وكان لعلماء الرياضيات اليد الطولى في تطوير منظومات التشفير وخوارزمياتها، ويُعتبرون، مع خبراء التشفير، خط الدفاع الأوّل في حرب مستعرة منذ قرون: حرب بين صنّاع الشيفرة ومحلّليها، اتخذت من المعلومات الرقمية أرضاً لها.

لكن ما الجديد الذي طرأ في عالم الأمن المعلوماتي؟

أصبح الحديث عن التشفير الكمومي رائجاً بشكل كبير ومحور الأبحاث الكبيرة لدى الدول المتطورة، على رأسها الصين والولايات المتحدة. وهنا السباق محتدم نحو امتلاك القدرة الكمومية أولاً، وثانياً ابتكار طرق جديدة لحماية البيانات والاتصالات من التهديد الذي تشكّله الحواسيب الكمومية ذات القدرات الفائقة.

ما هو التشفير الكمومي (quantum)؟ وكيف يعمل؟
التشفير الرقمي الحالي هو عملية تحويل المعلومات المقروءة والمفهومة إلى بيانات غير مفهومة. لكن التشفير الكمومي، تقنياً، يختلف بشكل كبير عن التشفير الرقمي. إذ إنه من الحاسبات الآلية التي تعتمد على فيزياء الكم.

ففي التشفير الرقمي تعتبر البت Bit الوحدة الأساسية للمعلومات على جميع الحواسيب التي اعتدنا عليها. والبت الواحدة يمكن أن تأخذ قيمة لها، واحدة من اثنتين: يمكن أن تكون صفراً (0) أو واحداً (1). أمّا في التشفير الكمومي فالوحدة الأساسية للمعلومات في الحاسوب تدعى «كيوبت». وهي اختصار لـ«البت الكمومية». وبدلاً من امتلاكها واحدة من قيمتين فقط، مثل الصفر والواحد، يمكن للكيوبت أن تمتلك عدداً كبيراً من القيم. وهذا يطابق كونها مزيجاً من الصفر والواحد في الوقت نفسه، وهي ظاهرة تدعى «التراكب الكمي» (Superposition).

وعندما يكون لدينا كيوبتان اثنتان بينهما تراكب كمّي، فإننا نتعامل في الواقع مع مجموعات أربع بدل اثنتين، وبوجود ثلاث كيوبتات فنحن نتعامل في التراكب الكمّي مع ثماني مجموعات. وهكذا، في كل مرة نضيف كيوبت واحدة، نضاعف عدد المجموعات التي يمكن أن نتعامل معها في التراكب الكمي في الوقت ذاته. لذلك عندما نتوسّع في التعامل مع العديد من الكيوبتات، يمكننا العمل مع عدد كبير من المجموعات في الوقت عينه. وهذا يلمح فقط إلى مصدر قوة الحوسبة الكمومية.

ففي التشفير الحالي يمكن استخلاص مفتاح التشفير عبر تجربة مجموعة الاحتمالات الكبيرة، وكلما كان المفتاح كبيراً فإن عدد الاحتمالات سيزيد بشكل كبير، وهذا بحاجة إلى مئات السنوات لفكّه. ولكن في الحاسوب الكمومي، مع عدد كاف من الكيوبتات في تراكب كمّي، يمكن استخلاص المعلومات من كل الاحتمالات في الوقت نفسه. بخطوات قليلة، يمكن للحاسوب الكمومي أن يتجنّب كل المجموعات الخاطئة، ويحدد الصحيحة منها. تصبح مئات السنوات التي يحتاج إليها فك التشفير عبارة عن عدة ساعات.

لذلك، يقوم المطوّرون وعلماء الرياضيات بجهد مضاعف من أجل إيجاد طرق رياضية قوية قد لا تكون ناجعة 100% أمام التشفير الكمومي، إنما بالحد الأدنى تزيد المدة الزمنية من أيام إلى أشهر. وعليه، فكل منظومات التشفير وأمن المعلومات ستصبح في خبر كان، وكل ما يمرّ على الشبكة العنكبوتية وما يخزّن من بيانات مشفّرة ستصبح مكشوفة وسيترتّب عليها مخاطر جمّة على البنوك والمعلومات الشخصية.

إن سعي الدول المتقدمة في امتلاك تقنيات تكنولوجيا الكم يعود إلى سببين؛ الأول، محاولة حماية بياناتها واتصالاتها من التكنولوجيا الكمومية نفسها إذا ما امتلكها أعداؤها. والثاني، الاستفادة الكبيرة منها في مجالات الطب والهندسة والفضاء. إن امتلاك تكنولوجيا الكم يعتبر تهديداً كبيراً للتشفير الحالي إذا ما توصل العلماء إلى امتلاك كيوبتات كافية تنهار من خلالها كل أنظمة الحماية والأمن والاتصالات. لكن، ولحسن الحظ، حالياً الحواسيب الكمومية موجودة على نطاق صغير، وقد لا تستطيع فك التشفير، ويعود ذلك إلى عدد الكيوبتات، هذا في الظاهر كما أعلنت شركتا «IBM» و«غوغل».

إن الدراسات العلمية الحديثة لا تزال في طورها النظري، وخاصة في الولايات المتحدة‏ وأوروبا. لكن الصين ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما أرسلت بيانات سرّية غير قابلة للاختراق من الفضاء إلى الأرض من خلال قمرها الصناعي «ميسياس» (Micius) عام 2016، ونجحت في إرسال مفتاح تشفير، وتحديداً باتجاه محطتين أرضيتين صينيتين، ما سمح بتشفير وفك تشفير آمن للمعلومات المرسلة بينهما عبر وسائط اتصالات تقليدية، أعقب ذلك عملية اتصال صوتي آمن بين الصين والنمسا.

تمثّل هذه التجربة خرقاً تاريخياً في التشفير الكمومي الذي يعتبر ركناً أساسياً في علوم وتكنولوجيا الاتصالات، وقد يكون الصراع التقني والاستحواذ على أسواق التكنولوجيا أحد أوجه الصراع بين الصين والولايات المتحدة، لأن الصين ذهبت إلى التطبيق العملي، مع أن عدد المنشورات العملية الأميركية كبير ناهز 584 براءة اختراع مقابل 656 للصين بحسب مجلة «إيكونوميست». هذا التطبيق العملي سمح للصين أيضاً ببناء شبكة اتصالات من الألياف البصرية الكمومية، في أيلول 2017، حيث أنشأت الحكومة الصينية أكبر ربط كمّي بين بكين وشانغهاي، لنقل المعلومات المالية الحكومية بأمان.

الهواجس الأميركية
يزداد الخوف الأميركي من التقدّم الصيني في هذا المجال لعدة أسباب:
أولاً- الاهتمام الصيني الرسمي الذي يتجلّى بالدعم الحكومي المادي، حيث تستثمر بكين مليارات الدولارات في مجال البحوث والتطوير، وتقدّم للعلماء الصينيين امتيازات كبيرة من أجل العودة إلى الصين والعمل في مختبرات بلادهم، فضلاً عن الزيارات الدورية التي يقوم بها الرئيس الصيني إلى مختبرات الفيزيائي الصيني، بان جيان وي.

ثانياً- الاستفادة الصينية في مجال الاتصالات الكمية والحوسبة لدعم الأغراض العسكرية وخاصة بعد المعلومات التي أدلى بها إدوارد سنودن عن التنصّت الأميركي على الصين. هذه الاستفادة أثارت مخاوف الإدارة الأميركية.
ثالثاً- زيادة عدد الطلاب الصينيين الذين يتابعون علومهم في أميركا في العلوم الكمية، ما يؤسس طاقة بشرية هائلة عند عودتهم إلى الصين.
رابعاً- احتمال أن تتمكن الصين من امتلاك أجهزة تمتلك القدرة على كسر جميع أشكال التشفير الحالية، الذي هو مصدر القلق الأوّل للجيوش والحكومات والشركات التي تتعامل مع البيانات الحساسة.

يحتدم الصراع السياسي والاقتصادي أكثر فأكثر بين الصين والولايات المتحدة حتى وصل إلى ذروته، وما لبث أن انضم إلى الصراع البعد العلمي التكنولوجي الذي يعتبره كلا الطرفين أهم أداة لليّ ذراع الآخر، انطلاقاً من «الجيل الخامس»، ولن ينتهي بالتكنولوجيا الكمومية. صراع قد يأخذ سنوات ينتهي بامتلاك تكنولوجيا الكم لتنهار عندها منظومة التكنولوجيا الحالية للخصم وللعالم كله.