«لكنني لا أريد الراحة. أريد الله، أريد الشِّعر، أريد خطراً حقيقياً، أريد الحرية، أريد الخير. أريد الخطيئة».من رواية «عالم جديد شجاع» – ألدوس هكسلي، الفصل السابع عشر

لقد دخلنا، رسمياً، في عالم ألدوس هكسلي: الكاتب، الذي تخيّل في عام 1931 أنّ العلم سيسيطر على البشر في عالم إلى حدّ أنه سيتدخّل في عملية إنتاج الأطفال.
وفي النقطة الأخيرة بالذات، يتصوّر هكسلي «مستقبلاً» تجرى فيه عملية الولادة في مراكز خاصة لذلك، وخاضعة تماماً لسيطرة العلم.
«المستقبل»، الذي يشير إليه هكسلي في «عالم جديد شجاع»، بات هو الواقع اليوم.
فأهلاً بكم في «عالم جديد شجاع»، حيث تتحكم الآلة بمصير البشر ــــ حتى قبل ولادتهم، فتختار «الأصلح» لأن يُولد!

«موجو»: شركة جديدة شجاعة
تلقت، منذ بضعة أيام، الشركة الفرنسية «موجو» تمويلاً بنحو 1.8 مليون دولار من أجل البدء بعملها.
مهمة الشركة: الوصول إلى علاج لمشاكل الخصوبة بتكلفة منخفضة عبر استخدام الروبوتات والذكاء الاصطناعي.
لكن «موجو» ستعمل على أكثر من ذلك: ستستعين الشركة بالذكاء الاصطناعي في عمليات التلقيح الصناعي لاختيار «أفضل» حيوانات منوية وبويضات بعد التدقيق بقاعدة بيانات «المستخدمين».
الهدف من هذه العملية، اليوم، بحسب المدير التنفيذي للشركة وأحد مؤسّسيها محمد طه، هو التأكد من أنّ الإجراءات تتم بسرعة، وبسعر منخفض، والأهمّ: بدقّة، لزيادة فرص الحمل.
ولكن الهدف البعيد للشركة، بحسب طه، هو «مكننة عملية الإخصاب».

نحو «مكننة عملية الإخصاب»
طه هو أحد المؤسسين الثلاثة لـ«موجو»، إلى جانب فاني شيسا وتوبياس بوكر.
وقد حصلت الشركة، منذ تأسيسها في فرنسا في كانون الثاني من العام الماضي، على أموال من شركات استثمارات ومنح حكومية من فرنسا ومجموعة أبحاث «Horizon 2020» في الاتحاد الأوروبي.
منذ نشأتها، فوجئ العلماء بعد قيامهم بأبحاث طبية عديدة خاصة في مجال الخصوبة، بأنّ الأبحاث الطبية الخاصة في مشاكل الخصوبة، لدى الذكور، قليلة وليست كافية بالمقارنة مع الأبحاث الطبية الموجودة لجهة الإناث.
لذا، أنشأت الشركة جهاز أطلقت عليه اسم «Mojo Pro»، مهمته الحالية مساعدة العلماء بتعداد الحيوانات المنوية وتحديد شكلها وجودتها، وبناءً على تلك البيانات سيتم وضع معايير يحتذى بها في ما بعد للتأكد من خصوبة ذكرٍ ما أو من عدمه.
واستناداً إلى الاختبارات الداخلية لـ Mojo Pro، حقق النظام نسبة 97 في المئة دقة في تعداد الحيوانات المنوية مقارنة مع التعداد اليدوي الذي يقوم به الأطباء حتى الآن، وفي هذا السياق تقارن الشركة نتائجها مع نتائج أفضل المؤسسات الطبية في هذا المجال، إلا أن الشركة تخطط لمزيد من التحسين.
وفي السياق عينه، تطمئن «موجو»، إلى أنه، بمجرّد بدء العمل بجهازها، سيتم جمع البيانات «بإذن المرضى»، ما سيوفر قاعدة بيانات ضخمة لديها وتحديداً لدى الذكاء الاصطناعي، هذا الأمر سيدعم إجراء المزيد من البحوث للنظر في عملية الإنجاب بأكملها، بدءاً من التلقيح، وصولاً إلى الجنين والطفل.
وتستعد الشركة للانتقال إلى المملكة المتحدة، تزامناً مع إطلاقها جهازها الجديد.

المستقبل: أطفال أصحّاء لـ«المستهلك»
يذهب طه بعيداً بالشرح في تقرير لموقع TechCrunch، إذ يقول: «إن الهدف النهائي للفريق هو مكننة عملية الإخصاب، بمساعدة الذكاء الاصطناعي التطبيقي والروبوتات (ومن المحتمل أيضاً أن تدمج الاختبارات الجينية للكشف عن الأمراض)»، ويضيف «نرى أنّ الشركة في المستقبل ستبتعد عن العمل مع المراكز الطبية، إذ سيكون الذكاء الاصطناعي والروبوتات لدينا قد أصبحت كاملة القدرة في عملية التعديل (الجيني والانتقائي)، ومن ثم سيكون لدينا وسيلة تضمن للمستهلك حصوله على أطفال أصحّاء. سنكون بشكل من الأشكال منشأة تحدث فيها عملية الإخصاب».
ويكمل طه قائلاً سطراً كان ليرسم ابتسامة ساخرة على وجه هكسلي لو كان حياً: «بشكل عام، نترك خصوبتنا للصدفة من خلال ممارسة الجنس... لذلك هناك بعض من العشوائية في هذه العملية».

اختَر «خصائص» طفلك!
في الحقيقة، إنّ الأمر برمّته مرعب.
صحيحٌ أنّ هذه التكنولوجيا ستقدّم مساعدة كبيرة إلى ملايين الأشخاص في العالم، وتحديداً غير القادرين على تحمل كلفة عمليات «طفل الأنبوب» التقليدية، إلا أن ما هو على وشك الحدوث هنا، يشبه ما كتبه هكسلي في روايته إلى حدود مرعبة. إن هذه التكنولوجيا، وتحت حجة «ضمان الحصول على أطفال أصحّاء»، لا تستهدف فقط الأشخاص غير القادرين على الإنجاب، بل كل الناس.
ويمكننا أن نتخيّل المستقبل القريب، حيث يدخل الأشخاص الراغبون في الحصول على الأطفال، إلى مركز خصوبة على شاكلة «موجو»، لتأخذ منهم الأخيرة «خصائص» الطفل الذي يريدون إنجابه، بالطبع سيكون ذكياً، جميلاً، ذو حالة بدنية ممتازة لا تشوبها شائبة...أي، ذات المواصفات التي سيطلبها «المستهلكون» المنتظرون خلفهم أمام البائع.
هي تكنولوجيا سيسوّق لها، تحت شعار: احم طفلك من الأمراض والخلل الجيني، إلا أننا فعلياً، سنكون بين يدي ذكاء اصطناعي لم يكتف فقط بأخذ وظائف البشر، بل تخطّى الأمر ليصبح المرشد لهم، لنصبح جميعاً، كما أردف هكسلي، مجرد تُرس في آلة.