يشهد العالم الرقمي منذ ثلاثة عقود تطورات دراماتيكية سريعة، وقد وصلنا منذ سنوات إلى حد بتنا نسمع كل يوم عن تطور تكنولوجي ما في مختلف المجالات التي تحيط بحياتنا اليومية. يأتي هذا التطور على شكل برمجيات لخوارزميات معزولة تعالج مواضيع محددة يتم تشغيلها في الحواسيب المحمولة، في الهواتف الذكية، على الشبكة العنكبوتية أو يأخذ منحى أوسع في أحيانٍ كثيرة بحيث أنه يشمل العتاد الصلب (Hardware) الذي يتألف بشكل أساسي من شريحة إلكترونية للمعالجة بالإضافة إلى حساسات إلكترونية مرافقة له (كاميرات، حساسات حرارة، حساسات ضغط، حساسات القصور الذاتي...) والبرمجيات المزروعة فيها Embedded Software لأداء مهام معينة؛ وهذا ما يعرف بالأنظمة المضمنة Embedded Systems.
تعيش هذه الأنظمة بيننا ونستعملها كل يوم من دون أن ندري في الهواتف الذكية، الكاميرات، الروبوتات، نظارات الواقع الافتراضي، الأنظمة الموجودة في السيارات والطائرات المدنية والقطارات، الأنظمة الموجودة في الطائرات من دون طيار، أنظمة إنترنت الأشياء... وعليه تشكل هذه الأنظمة اليوم النواة الأساسية لأي تكنولوجيا رقمية.
دفع هذا التطور في السنوات القليلة الماضية العديد من عمالقة الحواسيب وعدداً من الأفراد المهتمين بهذا التطور إلى إطلاق مبادرات عملية لتسهيل تعلم علوم الحاسوب والبرمجة وتمكين الجميع، صغاراً وكباراً، مبتدئين ومتمرسين، من الحصول على فرصة للابتكار والتطوير وتعزيز قدراتهم التقنية الذاتية إيماناً منهم بأن العصر القادم هو عصر الخوارزميات والحواسيب.
يعاني طلاب لبنان من نقص كبير في هذا المجال نظراً لعدم مواكبة المناهج الدراسية في المدارس والثانويات التطور التكنولوجي، في حين بدأت الجامعات تخطو ببطء نحو هذا الاتجاه.

من يريد أن يجد مكاناً في سوق العمل
عليه أن يتعلم
قواعد البرمجة

المستقبل اليوم للذكاء الاصطناعي والخوارزميات والبرمجيات، وعليه من يريد من الطلاب أن يجد مكاناً له في سوق العمل من الأجدى له أن يبدأ بتعليم نفسه قواعد البرمجة وهذا أمر متاح للجميع مجاناً أو بتكلفة قليلة من خلال مبادرات ومنصات مهمة موجودة على الانترنت تتكفل بتعليم الناس قواعد البرمجة من الألف إلى الياء بطرق سهلة، حتى لأولئك الذين لا يملكون أي معرفة بهذا المجال. فما هي أبرز المبادرات والمنصات التي يمكن التعلّم منها؟
عام 2013، تم الإعلان في الولايات المتحدة الأميركية عن مشروع غير ربحي ترعاه كبار الشخصيات في المجال التقني يهدف إلى نشر تعليم البرمجة لطلاب أميركا في المدارس، لا سيما الأطفال منهم، وحملت المبادرة اسم Code.org وروجت لها شخصيات مهمة مثل مؤسس فايسبوك مارك زوكربيرغ، مؤسس مايكروسوفت بيل غيتس، الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما وغيرهم من كبار المهندسين والخبراء بالإضافة إلى أشخاص محترفين في مجالات أخرى غير البرمجة كالرياضيين والفنانين. تحاول المبادرة كسر الرهبة لدى الأشخاص تجاه البرمجة، من خلال تعليم قواعد البرمجة بطرق سهلة ومبسطة في سبيل تكوين جيل جديد يملك عدداً كافياً من المبرمجين المدربين الجاهزين لسوق العمل. بالطبع إن الطابع "الخيري" و"غير الربحي" لهذه المبادرة يعود بشكل أساسي إلى حاجة سوق العمل وشركات التكنولوجيا إلى خبراء في هذا المجال. لاقت هذه المبادرة نجاحاً باهراً في أميركا وقد عمل مؤسسوها على تصديرها إلى كل العالم، حيث نشهد سنوياً ما يعرف بـ"ساعة البرمجة" وهي حملة عالمية تسعى للوصول إلى عشرات الملايين من الطلاب في معظم دول العالم وتوفّر دروساً مدتها ساعة واحدة لمن تتراوح أعمارهم ما بين 4 و104 سنوات ولا تشترط وجود خبرة في البرمجة، كما يمكن لأي شخص في أي مكان تنظيم حدث "ساعة البرمجة". يتم تعليم الفئات العمرية الصغيرة من خلال الألعاب مثل Minecraft، ومن خلال الأفلام Star Wars، في ما يوجد برامج أخرى للفئات العمرية الأكبر.
في السياق نفسه يوجد العديد من المنصات الإلكترونية المفتوحة المصدر التي تهدف إلى تمكين الجميع وبكلفة منخفضة من تعلم وبناء مهارات تقنية برمجية جيدة، مثل منصات RaspberryPi, Beaglebone وArduino الأكثر شهرةً ومبيعاً والأقل سعراً. هذه المنصات وغيرها هي عبارة عن حواسيب صغيرة بحجم اليد أو بحجم بطاقة الائتمان، تحتوي كل ما يلزم من عتاد صلب (Hardware) لتصميم، زراعة وتشغيل خوارزميات برمجية تقوم بأداء مهام معينة. المثير في هذه المنصات هو أنه بالإمكان ربطها بالشبكة العنكبوتية، بمنصات مماثلة أخرى وبحساسات إلكترونية عديدة، ما يفتح الباب أمام بحر من الأفكار والمشاريع التي يمكن تصميمها وتنفيذها بشكل مبدئي. تستطيع أن تتخيل مثلاً أنه بإمكانك تصميم كاميرا للمراقبة تزرعها أمام باب منزلك قادرة على تصوير الأشخاص وتقوم على الفور بإرسال رسالة نصية إلى هاتفك للوجوه الملتقطة. يمكنك أن تتخيل أيضاً تصميم طائرة رباعية المراوح أو غواصة صغيرة يمكن التحكم بهما. أو يمكنك أيضاً أن تقوم بتصميم نظام لمعرفة كمية المياه الموجودة في خزان المياه خاصتك بشكل مباشر ومن على هاتفك الشخصي…

لبنانياً، نلاحظ في الآونة الأخيرة تأسيس العديد من الأندية التي تعنى بتعليم البرمجة والروبوتات في عدد من الجامعات، بالإضافة أيضاً إلى المسابقات وبعض المبادرات البرمجية التي تجري كل عام على صعيد الجامعات والتي يدعمها العديد من الشركات اللبنانية والأجنبية. مشكلة هذه المبادرات المجانية أنها تبقى خجولة وبحاجة إلى تطوير وتعزيز أكبر. لكن بما أن أسعار المنصات المذكورة أعلاه والعديد من المبادرات الأخرى متدنية للغاية، فلماذا لا تقوم الجامعة اللبنانية مثلاً بشراء العشرات منها، لا بل المئات، في خطوة لتعزيز القدرات التقنية لدى الطلاب ابتداء من السنة الجامعية الأولى مما يساعد على تنمية الشق الإبداعي لديهم؟ أليس ضرورياً على كل طالب هندسة امتلاك قدرات برمجية كما يحصل في الجامعات الغربية؟ ألم يحن الوقت لتطوير الشق التطبيقي والعملي في المناهج التعليمية الجامعية لا سيما في الاختصاصات التي تعنى بعلوم الكمبيوتر والتكنولوجيا؟ كثيرون هم طلاب هندسة الكمبيوتر في الجامعة اللبنانية الذين يشكون من نقص ذريع في الأعمال التطبيقية في المناهج، خصوصاً أن هذا الأمر قد يعيق بشكل كبير دخولهم إلى سوق العمل من باب القوة والممارسة. يقول الدكتور ديفيد روسيتر، أستاذ الهندسة في جامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا، التي اشترطت ضرورة دراسة كل طلبة كلية الهندسة علم البرمجة في السنة الأولى أو الثانية: «مع تركيز عالم العمل بشكل أكبر على التكنولوجيا، يجب أن نتكيف مع ذلك في قطاع التعليم».
استغل البعض في لبنان الفرصة وقاموا بتأسيس مراكز ربحية تعنى بتعليم الصغار والكبار البرمجة وعلم الروبوتات، لكن تبقى هذه المراكز للأسف الشديد محصورة بطلاب الطبقة الغنية إذ أن رسم التسجيل باهظ الثمن، وهنا لا بد من تدخل الدولة إما لتأسيس مراكز مجانية، وإما للضغط على هذه المراكز لتخفيض رسم التسجيل، وإما لتعديل المناهج الدراسية وهذا هو الحل الأنسب على المدى البعيد. هذه الأمور لا تلغي في الحقيقة فكرة أن على عاتق الطالب مسؤولية البحث والتعلم بمفرده لتعزيز قدراته خصوصاً أن مصادر الانترنت المجانية وذات الجودة العالية أضحت مفتوحة للجميع.
مهما يكن الاختصاص الذي تسعى إلى تعلمه، سواء كان له علاقة بالتكنولوجيا أم بعيداً عنها، فإن معظم الدراسات تشير إلى أن تعلم أساسيات البرمجة تنمي لدى الأشخاص القدرة على التفكير بشكل منطقي لحل المشاكل. كذلك من المهم الإضاءة على أنه إذا أردتَ أن تعدّ نفسك لمهنة ستزداد أهميتها كثيراً في الأعوام والعقود المقبلة، ربما يجدر بك أن تفكر ملياً كيف تصبح مهندساً للبرمجيات والإلكترونيات؟ ففي عام 2011-2012 ارتفع عدد طلاب علوم الكومبيوتر في الولايات المتحدة الأميركية بنسبة 29%، ويتوقع أن تظهر الإحصاءات زيادة كبيرة للسنة السادسة على التوالي. وبالمناسبة أيضاً، صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً أمام وفد كبير من الطلاب الجامعيين أنّ "من سيقود الذكاء الاصطناعي، سيحكم العالم". إذاً، يمكننا القول إن علوم الكمبيوتر والتكنولوجيا هي بمثابة سلاح استراتيجي لا بد من امتلاكه وتعزيزه وإتقانه.
*مهندس كمبيوتر، إلكترونيات وأنظمة مضمنة وطالب دكتوراه في جامعة باريس 13 مع الوكالة الفرنسية للتخطيط