نستطيع إذا استعنّا بالعلوم الإنسانية، معرفة متى اخترعت البشرية فعلها الأوّل، ومتى مارسته، وكيف اندرج هذا الفعل في الحياة الطبيعية. نحن نعرف مثلاً متى تم إشعال النار، ومتى اخترعنا الكتابة، أو متى بدأت الثورة الزراعية، ومتى نشأت المدينة. كل هذا يمكن الاستدلال عليه. لكن متى نشأ الكذب؟ ومتى تم اختراعه؟ المعلومات في هذا المعطى تبقى قليلة، والجواب على هذه المسألة يبدو شبيهاً بطبيعة السؤال عنها، عويصاً للغاية. إن قلنا أن الكذب بدأ مع التاريخ المدوّن، فسوف ننبذ أكاذيب كثيرة تناقلتها الأفواه قبل التدوين. إنه سؤال صعب بلا شك، خصوصاً أننا نطرحه في عالمٍ يقوم على الكذب، من السياسة إلى الإعلانات، وصولاً إلى الميديا، كما أن الكذب مستشري بين الناس جميعاً. هل يمكن أن يوجد استثناء بحيث يغيب الكذب؟ هل من الممكن أن توجد بلدة نموذجية، في عالمٍ ما، خالية من الكذب، ومن الكاذب؟

(تصميم: فرانسوا الدويهي)

إن حدث ذلك، فعلى الأرجح سوف نرى الناس في تلك البلدة النموذجية يعيشون حياةً طبيعية كالتي نعيشها. لديهم وظائف وسيارات ومنازل وعائلات والجميع يقول الحقيقة الكاملة. لكن هل هكذا بلدة موجودة؟ ثم، يبقى سؤالنا الصعب أساسياً، هل يمكن العيش بدون كذب؟
ليس في وسع الخيال رؤية ذلك، فالخيال نفسه ينتج الأكاذيب. حتى أنّك إذا تخيّلت عالماً خالياً من الكذب فهذا في حدّ ذاته أكذوبة. لكن ذلك تبريراً كافياً لاختراع الكذب، وهذا بالتحديد ما يصوّره ريكي جيرفيه في فيلمه: «اختراع الكذب» (The invention of lying) الصادر عام 2009 من إخراجه وبطولته وكتابته. إن الهروب من الواقع الموضوعي إلى ما يصنعه الخيال، هو صناعة خيالية بلا شكّ لكنّها صناعة لها ضرورات ومسوّغات، وهي صناعة تحتّم تفادي الكارثة. يصوّر فيلم «اختراع الكذب» تلك البلدة النموذجية حيث «ليس هناك خداع أو تملّق. الناس يقولون بالضبط ما يدور في ذهنهم، ومن الممكن أحياناً أن يبدو ذلك قاسياً قليلاً، ولكن لا خيار لديهم في الأمر، فهذا من طبيعتهم».
في بلدة ريكي جيرفيه النموذجية لا وجود لمفردة «الكذبة» في اللغة. إنها كلمة غير معروفة على الإطلاق، ومدلولها، أي الكذب، كممارسة فاعلة، لا يجد حيّزه هناك. البلدة تلك ليست مدينة فاضلة إطلاقاً، إذ يسكن فيها اللص، والحاسد، والمتنمر ولكن لا أحد منهم يكذب. إنهم يقولون أموراً تُعتبر، في عالمنا نحن، على أنها مخجلة وقاسية وبذيئة، ذلك أن الكذب في عالمنا «فعلة» طبيعية، فمندوب المبيعات مثلاً يستفيض بأكاذيبه عن السلعة التي يريد بيعها وإلا فلن يكون مندوب مبيعات. أما في تلك البلدة النموذجية، فحتى الإنتاج السينمائي قائم على الحقائق التاريخية حيث يقف نجاح الكاتب بحسب العصر الذي وُكِّلَ بالكتابة عنه. من يكتب عن الطاعون في القرن الرابع عشر، سوف يُحكم عليه بالفشل، خلافاً عن الذي وكّل بالكتابة عن القرن الثامن عشر والثورة الصناعية التي يهواها الناس.
للبلدة بطل سوف نتعرّف إليه واسمه مارك. هو كاتب القرن الرابع عشر سالف الذكر. مارك محكومٌ بالفشل حتى بإيجاد شريكة لحياته. يخسر وظيفته، وشقته المستأجرة، ويكاد يصير مشرداً في الشارع، إلا أن اختراعه ينقذه. تكذّب موظفة البنك حاسوبها الدقيق الذي يقول إن في حساب مارك ثلاثمئة دولار فقط وتصدّق مارك الذي يقول إن في حسابه ثمانمئة دولار، ثمن إيجار شقته. فالكذب عند موظفة البنك، غير موجود، بالأحرى لا أساس له على الإطلاق، عالمها نقّيّ منه، لكن مارك قد كذّب، ومعه، فقد اختُرع الكذب. «اليوم، اكتشفتُ أمراً لم يكتشفه أحدٌ من قبل. ما فعلته سيتم ذكره في كتب التاريخ طوال الأجيال القادمة. ورغم ذلك، قبل لحظات، كان أمراً مستحيلاً، ليس لي فحسب، بل للبشرية كلها. من الصعب وصف ذلك، وكان سهلاً إلى حد... كيف يمكنني شرح هذا الأمر؟ قلتُ شيئاً لم يكن صحيحاً»
يبدأ تزوير التاريخ ابتداء من هنا. إن الصدق طوال أربعين عاماً من الحياة لم يجعل من مارك، بطلنا رجلٌ نافع، فيما الكذب سوف يغيّر حياته، وما من منافسٍ له في ذلك، فهو الكاذب الوحيد في تلك البلدة. سوف نراه، بعد اختراعه للكذب، أنه في القرن الرابع عشر إلى جانب الطاعون، وقبل لحظات، كان ثمّة غزو فضائي للأرض، ومركبات تهبط في بابل، وجيش من النينجا يقاوم، ونساء من الأمازون، وأفراح على كوكب المريخ. هو تزوير ينتج عن حاجة، أو قلّ الكذب باعتباره ضرورة، وهي حاجة مارك للعمل، والعيش من دون أن يكون متشرداً.
إن ممارسة مثل هذه اللعبة، لعبة الأكاذيب، هي طريقة لتأكيد السيادة الفردية والدفاع عنها عندما تتعرض للتهديد، كما يقول الكاتب البيروفي ماريو يوسا في مقالته «سلطة الكذب». يتضح أن سلطة الكذب هي طريقة لخدمة مجال الحرية للفرد، حصن خارج عن سيطرة السلطات، محمي من تدخّل الآخرين، ومن هذه الحرية تولد معها الحريات الأخرى.
إن التغيير الحاصل في حياة مارك، والذي انعكس في الفيلم عند عودته إلى القرن الرابع عشر وما نشأ من أحداثٍ، يشقّ مساراً آخر. مسار من الممكن أن نصفه على أنه اختراعٌ ثان، هو اختراع الأدب، والذي لا يختلف عن الاختراع الأوّل كثيراً. فبعيداً عن المعالجة الفيلميّة، يمكننا القول إن الأدب اختُرع ليخفف أعباءنا، ولتأكيد سيادتنا الفردية عندما تتعرض للتهديد. ضمن هذه الأعباء كانت فكرة الفناء، والموت الذي هدد وعي الإنسان، فراح الأخير يختلق الأساطير، التي هي نوع من الكذب، لكي يفسّر عدم تمتّعه بالخلود، كما هو حال الآلهة. ومن أسطورة جلجامش انبثقت بقية القصص. في جلجامش نعثر على الكذبة الأولى، لا الحرب مع الوحوش البرية ولا المغامرات التي يخوضها «ثلث إله وثلثي إنسان»، بل الكذبة التي تخفف العبء الأخلاقي عن جلجامش، كي لا يتّهم الآلهة بسرقة خلوده. إنها كذبة الأفعى التي تجدّد جلدها كلّ عام بفضل إكسير الخلود، هي التي سرقت النبتة إلا أن اللوم يقع عليها لا على الآلهة، وبذلك يتخلّص جلجامش من عبئه. ومهما تباعدت المجموعات البشرية في أمكنتها وأزمنتها إلا أنها تُنتج ذات القصص، ولو جاءت بأوجه مختلفة، لكنها تحمل ذات الجوهر حسب ما يقول جوزيف كامبل في كتابه «البطل بألف وجه».
يُخبر مارك أمه التي تموت وترى في الموت انتقالاً للعدم، أنها مخطئة بظنّها، وأن الموت هو على عكس ما تخاله. يقول لها مارك، كذباً، إنه توجد بعد الموت حياة جميلة، وقصر نسكنه إلى جانب من نحب. سوف تموت الأم مطمئنة، مبتسمة. أليس هذا هو، بشكلٍ أو بآخر، وظيفة الدين وعلّة اختراعه؟
إننا ندخل عتبة الدين عندما نجد مفهوم العالم الآخر، أي مستوى آخر للوجود يتجاوز المستوى المادي ويتعالى عليه. من هنا نفهم كيف أن ثنائيات مثل وجود مقدس نقيّ وأبدي مقابل وجود دنيوي زائل ومؤلم، ويسمح للأولى أن تستقطب البشر كونها توفر لهم ملاذاً. إنها كذبة تشبه فعلة اليونانيين القدامى في عصر قصائد هوميروس، إذ كانوا يضعون بين أسنان الميت قطعة نقود لكي يدفعها أجرةً إلى «خارون»، الملّاح الذي ينقل الموتى، كي لا يقع فقيدهم في العدم، وليطمئنوا أنه وصل سالماً إلى العالم السفلي. ومن هذا الفضاء بالذات، نرى أن في البلدة النموذجية التي يعيش فيها مارك، يحصل ما نقول عنه «الإلهام». فما قاله مارك انتقل إلى سكان البلدة، فتجمّعوا حول منزله ليعرفوا المزيد، لذلك تقنعه صديقته بالخروج إليهم وحفّزته قائلة: «تخيّل ماذا يمكن لكلماتك أن تفعل بتلك الجموع من البشر، إنهم يحتاجون إلى سماعها، ما تفعله سيغيّر وجه البشرية إلى الأبد». وبالفعل هذا ما يحصل. لقد تغيّر وجه تلك البلدة النموذجية حيث آمن سكّانها أنّ رجلاً يسكن في السماء يمكن أن يتكلّم إلى مارك وحده: إنه اختراع الوحي. يستغل مارك ذلك في سلسلة غير متناهية من الأكاذيب التي لا تغيّر حياته فحسب، بل حياة البشريّة جمعاء. ومثلما يحدث في عالمنا، ينشأ في الفيلم بعد سلسلة الاختراعات تلك، معايير تحدد العقاب والثواب، وطقوس للعبادة، وخوف من الرجل الذي في السماء، وطمأنينة، بدل الخوف من العدم اللاحق بالموت، إزاء القصور التي سيسكنها الناس بعد انتقالهم إلى العالم الآخر.
لا أحد في تلك البلدة يتعلّم الكذب من مارك، لكنه ورّث جينات الكذب إلى ابنه الصغير الذي كذب كذبته الأولى عندما أخبر أمه أنّ طعامها السيئ لذيذ. ليس غريباً إذن أن يبتكر البشر عيداً للكذب، ويحتفلون به. إن المرء، عند فارغاس يوسا، لا يستطيع أن يعيش بالحق فقط. الأشخاص أيضاً بحاجة إلى الأكاذيب، تلك التي يخترعونها بموافقتهم وليست تلك التي فرضها عليهم آخرون. وفي خداع الأدب، كما نرى في جلجامش والقصص بعده، أو رواية روبنسون كروزو، وهي الكذبة التي ولدت معها الرواية الإنكليزية، ما يعني أن «الكذبة» اخترعتها، حيث لا يصرّح مؤلفها دانيال ديفو عن اسمه كمؤلف بل يقول إن المذكّرات كتبها روبنسون كروزو أي الشخصية بنفسه، وأوكل ديفو بنقلها ونشرها، وهذا الخداع لا يعتبر خداعاً أبداً. لا ينحصر هذا التلاعب بخانة الخداع أي الكذب، لأننا، وكما يبرّر يوسا، عندما نفتح عملاً خيالياً فإننا نضبط عقولنا للمشاركة في أداء، حيث نعلم جيداً أنّ مدى تحرّكنا أو مللنا سيعتمد حصرياً على موهبة الراوي في جذب انتباهنا، حيث يجعلنا نقبل أن نختبر أكاذيبه في عالم خياله، كما لو كانت الحقيقة، وليس على قدرته على إعادة إنتاج ما حدث بالفعل بأمانة، أو كما يقول: «فقط السذّج الذين يؤمنون أنّ الأدب يجب أن يكون مخلصاً بشكلٍ موضوعي للحياة ويعتمد على الواقع مثل التاريخ قد يعتقدون أنه ذلك (ويقصد الكذب)».
حين نشاهد فيلم «اختراع الكذب» يجعلنا المؤلف نقبل أن نختبر أكاذيبه (حول اختراع الكذب) في عالم حاكه في خياله كما لو كانت الحقيقة. لا غنى عن الأكاذيب إذن في حياتنا. إنها اختراع الطمأنينة، وربما لا يمكن للبشرية بحسب ما نعرفه من التاريخ أن تتأقلم مع شكل الحياة بدونها. «سلطة الكذب» تؤمن النظام عندما تبدو الحياة الفوضوية. هي ذلك «البنج» الخفي الذي يسعفنا، جرعة الأفيون المطلوبة التي بدونها لن نستطيع أن نمضي قدماً، هي أيضاً، لغة الخيال الخارق. «سلطة الكذب» هذه، هي سلطةٌ من صناعتنا، نختارها ونمارسها بملء إرادتنا وبالتالي، هي، بشكلٍ أو بآخر، حرية. وداخل هذه الحرية، حرية الكذب، نكون نحن، سادة مصائرنا.