على اختلاف طبائع الزمان والمكان، تظلّ صدفة الميلاد بعاهة ما، أو الخروج عن سياق الجسد المنتمي إلى الجماعة، أشبه بجحيم يستعيد خروج آدم من الجنّة. أنتج المجتمع البشري منذ نشوء الحضارة، النبتة الأولى لوصم الاختلاف وإحالته إلى نموذج القبيح أو المُعتلّ، والمُهدّد دائماً بالحفاظ على مساحة بينه وبين «الجماعي». يمكننا أن نبدأ من عند أرسطو، صاحب التعريفات والنشاط «المؤسّسي» الأول للقبح كحالة وصم، حينما عرّف النساء بأنهنّ «ذكور مشوّهة». رؤية أرسطو التمييزية، القائمة على تحديد ماهية الإنسان وفقاً للارتقاء الذهني الذي يمكن أن يُنتجه في سلّم الإنسانية، لم تنتبه إلى سلبيّة تجاهل نشوء الحضارة لضرورة الاختلاف، لا كمادّة نبذ، ولكن كمادّة تضافر وتكوين.ولأن الثقافة تظلّ عادة حاكمة ومحكومة بالتبادل مع ممثّليها، اتّسع نطاق النبذ في إسبارطة القديمة، من خلال أرسطو أيضاً، حيث بات يُمنع وجود المولودين بعاهة خلقية، أو ذوي التشوّهات في الوجه، مهما كانت ضئيلة، حتى شاعت ثقافة بين أهالي المدينة لدى ابتلائهم بعقاب إلهي بأن يقدّموا أحد القبيحين كقربان. من هنا تحديداً نشأ ثبوت الهويّة القائمة على نقاء متوهّم.

«ثانية واحدة وستّة وسبعون جزءاً من الثانية» لكريكور أفيسيان - 2018

ساعدَت عوامِل الحضارة القائمة على الانتقاء، وإنتاج نموذج مثالي متحكّم ومنتج ومشكّل للثقافة، على تحويل القبح من ظاهرة غيبيّة (لا يختار أحد شكله ولا طبقته)إلى ظاهرة إنسانية، يبدو الطرف القبيح فيها مسؤولاً عن قبحه، في حين لا يقدّم الطرف الآخر الجماعي أي حلول سوى النبذ الكامل. تشير الباحثة الأميركيّة غريتشن. إي. هندرسن في كتاب «التاريخ الثقافي للقباحة» إلى تحوّل ظاهرة القبح إلى ثنائية موازية لثنائيّة الخير/الشر، بات فيها استدعاء الإرث الميثولوجي/ العقائدي مادّة سببية لظهور الأجساد القبيحة.
في القرن الثالث عشر، تم تحذير الأمهات في مجتمعات البشرة البيضاء من النظر إلى وجه أسود، أو قبيح أو مشوّه، حتى لا يولد الجنين «كايميرا» (أي رمز ميثولوجي لأنثى حيوان برأس أسد وجسد عنزة وذيل أفعى). يكشف كتاب «القصة الحقيقية للرجل الفيل» (true story of the elephant man) قصة فيلم the elephant man الحقيقية، حيث إن جوزيف ميريك (joseph merric)، أو الرجل الفيل، وُلد على هيئته القبيحة لأن أمّه نظرت إلى فيل خلال فترة الحمل.
وظّف عصر الصناعة، منذ نشوئه، حالة القبح في ممارسة تمييزية وطبقية وسياسيّة: فكلّ من لا يستطيع التحكّم في الإنتاج، لا بد أن يكون أداة مستعبدة لتحقيقه. لم تتوقف تبعات المستعمرات في العمق الأفريقي عند إلغاء ثقافة ما فحسب، ولكنها أنتجت ثقافة جديدة، ضد الممثلين الأصليين، والمستحقّين لممارسة ثقافتهم. هناك تجربة معروفة، تم إجراؤها في منتصف القرن العشرين، تُعرف باسم «تجربة الدمية» (The Doll Test). تقوم نتائجها على عرض دمى بيضاء وسوداء اللون على مجموعة من الأطفال من أصول مختلفة، على أن يختار كل طفل الدمية التي يفضّلها. خلال التجربة، رفض معظم الأطفال الدمى السمراء، ملصقين بها صفتي «السوء/ الظلام»، بينما وُصفت الدمى البيضاء، بـ«الجمال/ النور». تعيدنا خيارات الأطفال المتوارثة من الثقافة السائدة والحاكمة إلى الحيّز اللغوي، المتتبع لنشوء القبح، إذ يشير «التاريخ الثقافي للقباحة» إلى أن أصل كلمة «قبيح» (ugly) في اللغة الإنكليزية يرادف الخوف. جاء أصل الكلمة من الأسكندنافية القديمة uggligr وتعني ما يُسبب الفزع والرعب. قد يكون المخيف، هو ما يخيفك أنت أو ما يخيف المجموعة، وليس ما هو مخيف أو مفزع في حدّ ذاته.
تدور الثقافة الحاكمة حول ذاتها، عادة، لإنتاج ذاتها بصورة مغايرة، لتكون متّسقة أكثر مع السياق المعاصر. أنتجت سياقات القبيح/ الجميل، المقبول/ المرفوض، قوالب لها ظاهر جميل ومثالي، ليس لأنّها تنطوي على جمال ذاتي، ولكن لأنها تستطيع الاشتباك مع رضى وقبول الجماعة. نتج عن الثقافة ضد لها، وتكوّنت أنساق تناهض التمييز العرقي، لكن دون أن يمسّ ذلك مسار الإنتاج والتداول لرأس المال. الظاهرة التي يتبناها نبذ الجسد العليل أو الهيئة القبيحة، والوجه ذو البشرة السمراء، لم تعد قادرة على إنتاج شكلها التقليدي، المرتبط بنشوء الحضارة، أو بصعود المجتمع المادي. الآن، بفعل الأكواد الكبرى، المرتبطة بشعار المساواة، والتي أخذت طابعاً مؤسساتياً جزئياً، يظهر في إعلانات الشركات الكبرى مثل شركة nike الرياضيّة، في حين أن الشركات نفسها تستخدم أشخاصاً من ذوي بشرة سمراء للعمل في مصانع برواتب شحيحة، من دون تأمين، ومن دون أي مستحقات بشريّة للعمالة. لم يعد لشكل النبذ اللفظي، أو إقصاء الجسد القبيح القدرة على ممارسة نشاطهما بصورتهما المعتادة والمؤسساتية الظاهرة. غير أن الإقصاء يظلّ يولّد الرعب والخوف على الدوام كما نرى في تجربة الكاتب المصري رجال علّيش الذي يبدو فزعه متفرّعاً من فزع متأصّل لدى كافكا.

رجاء علّيش في غرفة غريغور سامسا
يجيد الأدب إخفاء مبدعيه، ليس كأشخاص بالضرورة، إنما كحكايات. غير أن الأدب عند رجاء علّيش كان مادّة لمقاومة اختباء قهري، تداعى إلى نبذ أجّج غضبه اتجاه العالم كله مثل طفل. لا توجد بيانات تاريخية مثبتة حول الكاتب المصري، يُقال إنه ولد في مطلع الثلاثينيات، لكن المؤكّد أنّه مات منتحراً، في فترة ما بين عام 1979 ومطلع الثمانينيات. نقلاً عن أرشيف موقع «الكتابة الثقافي»، فقد انتحر رجاء بعدما «فجّر شقتين كان يملكهما من خلال 16 أنبوبة بوتاغاز و14 صفيحة بنزين، ثم توجه إلى سيارته وأطلق رصاصة على رأسه».
يصلح رجاء علّيش، لأن يكون نموذجاً مثاليّاً لقراءة تداعيات القبح، والشكل المعاصر لنبذ ووصم القبيح. أن تخرج عن إطار الجماعة، لهو خطوة مبدئية للخروج عن إطار الحياة أو عن ممارستها. ثمّة غياب، يشبه المقاومة من قبل رجاء نفسه، ويُشكّل ما هو انصياع بديل، لاختفائه عن الأرشيف الأدبي، كأنه بدوره كان يتماهى مع نبذه المعاصر، ويقاوم البحث المستقبلي عنه كحالة يمكن قراءة تأثير القبح من خلالها. لا توجد سوى صورة واحدة، في الأرشيف الصحافي، أو وصف مبدئي لهيئة رجاء الجسدية، أو تفصيلات وجهه.
لم يختبئ رجاء علّيش وراء الأدب، إنما استخدمه كوسيلة للبوح، للغضب المستحقّ، وللظهور الذي لم يتحقّق بالكتابة، فقد كتب رواية «كلّهم أعدائي»، ومجموعته القصصية «لا تولد قبيحاً» ولم يستطع فيهما أن يخرج بالمخيّلة عن همّه الشخصي. في روايته، معظم الأشخاص مصابون بعاهات جسدية، نموذج بوجه جميل، لكنه مصاب باضطراب في الذكورة، لديه مشكلة في التزامه ونزاهته الأخلاقية تجاه عالم لا ينقطع عن استغلاله. هناك نموذج آخر بوجه مشوّه، يتعرض لسخرية واعتداء أطفال الشوارع، وثالث يشتبك في ضخامة جسده مع مشكلة الثاني. لم تكن «كلهم أعدائي» سوى انعكاس بسيط، وربما هي قائمة، من الناحية الأدبية، على مخيّلة فقيرة، لكن ذلك الفقر يعود إلى تسلّط جحيم الفردية الكاملة، والاختباء المبطّن بالإقصاء عن نشاط الجماعة، عن إمكانية التواجد في إطار العالم المرئي.
في مجموعة «لا تولد قبيحاً»، يتداعى التطابق الكاسر لإيهام الخيال عند علّيش إلى وضوح تام، مباشر، متجاوز للوسط الأدبي. يقول رجاء في مقدّمة القصص «هذه الصفحات عن أغرب مشكلة في حياتي، مشكلة القبح. يمكنك أن تتخيل أغرب رجل في العالم. أقبح وجه يمكنك أن تصادفه في أي مكان علی الأرض لتتأكد من أنّك تراني أمامك، الأضحوكة الدائمة، الغرابة الدائمة. أنا دائماً الأغرب، الأفظع، الأقبح». لم يعد الأدب هنا، منشأ للحقيقة، أو محاولة لتعريتها، بل أصبح مثل صرخة، مباشرة وحادّة. لم يكن رجاء عليش يحتاج سوى إمكانية الحب، والحياة، والسير وسط الجماعة من دون جحيم التهديد. وهذا ما يتنافى تماماً مع حياته التي عاشها من دون صداقات في الوسط الأدبي أو خارجه، من دون زواج أو علاقات، وبلا القدرة على الاندماج في أيّ مجموعة. من الواضح أن كتابته كانت توثيقية، أشبه بانعكاس لحياته وربما يبرّر من خلالها شعوره المتضخّم بالكره الخالص تجاه العالم.
بصنعة أدبية، تقوم على الاختباء، أو القدرة على الصراخ الكتيم من خلال اللغة، يوظّف كافكا جحيم الشعور بعلّة ما، أو كابوس الخروج عن السياق الجماعي، في النوفيلا الأيقونة «المسخ».
«استيقظ غريغور سامسا ذات صباح ووجد نفسه قد أصبح حشرة!». يقول غابريال غارسيا ماركيز إن هذه الافتتاحية، هي ما ولّدت لديه اليقين القاطع بأن الأدب يمكنه أن يُفتتح بهذه البساطة، بهذه القدرة على استقطاب العظمة من لا شيء. لكن وراء افتراضه البديهي، بتحوّل سامسا إلى حشرة، كان يكمن خوف مطلق يتملّك كافكا، وقد شكّل جزءاً من نتاجه الأدبي كله، من شعور الوحدة والانقطاع عن مفهوم الجماعة الأول «العائلة». يستفيض الناقد والكاتب الأرجنتيني ريكاردو بيجليا في شرح هذه الفكرة في كتابه «القارئ الأخير»، وتحديداً في فصل «قصة حول كافكا» حيث يشير إلى أنّ صاحب المسخ كان يعاني من جحيم الانقطاع، وكان يرى أن الأدب الحقيقي هو ابن الديمومة. تنعكس ثنائية المنقطع/ المستدام على حياة كافكا الشخصية، علاقاته التي لم تدم، وعدم القدرة على التواصل مع العائلة. تُنتج الاستدامة أدباً، لكنّ الانقطاع يُنتج مسخاً، حشرة ملطّخة بالحقارة. انتصر الهاجس المخيف على كافكا، وظهر الكثير من أعماله في نهاية ليست نهائية، مثل رواية «المحاكمة» التي تنتهي عند جملة ناقصة. كان كافكا يقاوم باحتمال المداومة، وكانت وحدته العاجزة عن التعاطي مع المجموعة، تنتصر عليه بالانتهاء الواضح عند الانقطاع.