لم أُقبِل على قراءة كتاب «الطاهي يقتل... الكاتب ينتحر» لأنني أجيد الطهو أو الكتابة، ولكن ثمة فقرة بين سطور الكتاب استوقفتني في لحظة ساحرة. في تلك الفقرة يعيد الكاتب المصري عزت القمحاوي وضعنا أمام منظور مختلف لتأمل عملية الكتابة باعتبارها ممارسة أنثوية أصيلة رعتها المرأة عبر الزمن تماماً كالطبخ، الأمر لا ينطوي فقط على تذكيرنا بالتقسيمات الجندرية التي تحصر المرأة في المطبخ والرجل في حقل العمل، لكنها محاولة لمدّ الخط على استقامته وإعادتنا إلى جذورنا الأنثوية في ممارسة فعل حميم كالكتابة.يبدأ القمحاوي فصول كتابه بالوقوف على عتبة ذاتية، لحظة شاعرية يستدعيها من ذاكرة طفولته تختلط فيها الأم والنساء والحكايات والطبخ: والدة الكاتب وجاراتها يتسامرن ويتبادلن الحكايات أثناء خبز العجين في ساحة الدار، وهو يجلس منصتاً متلصّصاً على حكاياتهن، ليغذي خياله وبطنه لاحقاً. وعندما ينفلت من تلك الجلسة النسائية يعود إلى عالمه الطفولي ويسرب إحدى الحكايات التي سمعها، يتولى دور الراوي العليم بين أصحابه من الأطفال، وأيضاً في الكتاب الذي هو طبخة تمزج بين الأدب والطبخ.

(إليز زخّور - 2022)

يمكننا تأمل المشهد السابق الذي سرده الكاتب لنراقب الأفعال فيه، من الذي يفعل ويخلق؟ ومن الذي يستقبل نتيجة الخلق؟ النساء هنا يطبخن الطعام ويحكين الحكايات. لا وجود للحكاية إلا إذا امتلكها راوٍ فيحولها إلى حكي، تماماً مثلما تحول النساء مكوّنات الطعام من خُضر ولحوم إلى طبخة واحدة، أما الكاتب هنا الذي هو الطفل فهو مجرد ناقل للحكاية لكنه لا يخلقها. يمكننا النظر إلى الكثير من الأمور قياساً على ذلك المشهد، وأبعد من ذلك نتخيل أسطورة الخلق التي يليق بها أن تبدأ بنساء يطبخن الطعام ويحكين قصة بدء الخلق، بينما الرجال على امتداد التاريخ هم رواة يعيدون كتابة ما تحكيه النساء.
لا تغفل الكاتبة مينيكه شيبر في كتابها «تلال الفردوس: تاريخ الجسد الأنثوي بين السلطة والعجز» الحديث عن سلطة الأساطير، حيث تحلل بشكل عقلاني ما تغفله كتابات تأريخ أصل وخلق الأساطير، مشيرة إلى أن الأساطير التي توارثناها والثقافات الشعبية تنطوي على عدم مساواة جنسية، والسائد فيما توارثناه من قصص هو «الأدوار المتغيرة للإلهات والآلهة، وتفوّق الرجل الأول على المرأة الأولى» وتناقل هذه الصورة الراسخة يؤكد تلك التراتبية.
يمنحنا التاريخ حقائق كثيرة ويتركنا أمام أسئلة كبرى، على امتداد الأزمان كان الرجال يحكون ويؤرّخون حكاياتهم ومصائرهم، ويتسيّدون مواقع البطولة في أغلب القصص، واعتيادنا على تلقي السرد التاريخي من الرجال فقط يدفعنا الآن للتفكير في أصوات النساء وسردهن للتاريخ والحكايات من وجهة نظرهن التي هي حتماً مختلفة، فنصبح أمام سرديات متوارثة أحادية المنظور لأن الأصوات الذكورية انفردت بالتأريخ وسلبت الحكي من تحت بساط النساء، فقد أدركت المجتمعات الذكورية في لحظة تنوير أن الحكي سلطة قادرة على التحكم والتغيير.
تمنحنا شهرزاد في ليالي «ألف ليلة وليلة» مثالاً قوياً على سلطة الحكي التي منحتها كامرأة القدرة على التحكم بل وتغيير المصائر والطباع، فلأنها حكت نجت من القتل، ولأن شهريار أنصت لها تغيرت نظرته إلى النساء وتبدلت رغبته في قتلهن، وسلطة الحكي الأنثوي في الليالي منحت السامع والقارئ نظرة أنثوية مختلفة للحكي من وجهة نظر امرأة.
يمكننا النظر إلى الحكي مثل الطبخ باعتباره سلسلة ضمن سلاسل سرقات الرجال لسلطة النساء. يقول القمحاوي: «لقرون طويلة ظلّ الطبخ فن النساء قبل أن يحوله الرجال إلى مهنة مربحة». وفي سياق متقارب، تشير الكاتبة مينيكه شيبر إلى أن الرجال نجحوا في سرقة أسرار النساء عندما شعروا بأن المساهمات الغذائية للنساء تمثّل تهديداً لهم، وعليه أعيد نقل الأساطير بالطريقة التي تمنح الرجال سلطة الزراعة ورعاية الغذاء في منزلة أعلى من النساء.
لا يقدّم القمحاوي ربطاً سطحيّاً بين الطبخ والنساء باعتباره تصنيفاً جندرياً تقوم به النساء فحسب، بل يطرح هذه الفكرة المجردة ويفككها، ويقف على مساحات التلاقي بين الطبخ والكتابة الإبداعية. المسألة بأكملها وصفة تحتاج إلى إتقان صاحبها، يقول القمحاوي: «يمكن للكاتب أن يتدرب في المطبخ لاكتساب طاقة الخلق الأمومية وكرم الاختفاء. علاوة على ذلك فالطبخ تمرين للمخيلة وإنعاش للحدس الفني».
إن تأمل الربط السابق يدفعنا إلى تتبع الجذور القديمة لتقسيمات الأدوار الكونية والأساطير القديمة حيث الإله الذكر في الأعلى والأرض الأنثى في الأسفل. اختلفت حكايات الحضارات القديمة في الأسماء والأزمان واتفقت على سياق واحد مشترك، فالحياة بدأت من تزاوج إله السماء الذكر بالأرض الأم جايا، من جسد الأم بدأت الحياة، وأصبحت الأنثى قرينة بالخلق: بعث الحياة، جمع النباتات، أما الصيد والقتل وترويض الحيوانات فهي قرين الذكر.
إذا كان جسد المرأة يمنحنا الحياة المتمثّلة في أجسادنا، فالجسد هو الولادة الأولى، وكياناتنا الروحانية التي هي طبيعتنا البشرية الأسمى هي الولادة الثانية، والروح هي التي تمنحنا أنثويتنا. يمكننا قراءة تاريخ طويل من دلالات الذكوري والأنثوي في التماثيل القديمة والنقوشات الحجرية، حيث جسد المرأة في ذاته يعكس طبيعتها كأنثى والرجال لا تعكس أجسادهم شيئاً بقدر ما تعكسه أدوارهم الاجتماعية في الصيد والقتل وخلافه. الجسد الأنثوي هو التمثيل الخام للطبيعة الأنثوية، هو الجسد والروح في آن واحد.
الروح الأنثوية موجودة في داخلنا، كل ما نحتاج غليه هو نبش دائم للبحث عن تلك الروح الكامنة في داخلنا فتتجلى فينا الرؤية الأنثوية لذواتنا وللعالم.
في ثقافات عدة نسمع عنها بل ونعيش بينها يعامل كل ما هو أنثوي بشيء باحتقار، أو كما تطرح مينيكه تساؤلاتها عن السبب وراء الحاجة الذكورية إلى قصص تسلب السلطة من النساء وتدفعهم للتخلص من الخصائص الأنثوية وجعل الأداءات الذكورية أكثر تفوقاً. والتخلص من كل ما هو أنثوي هو النقيض لما يطرحه القمحاوي في كتابه، بل إنه يدفع الكتاب للعودة إلى كل ما هو أنثوي كتمرين ضروري للروح والكتابة.
بالعودة إلى طبخة الكتابة في كتاب القمحاوي نقرأ: «بسبب كل التشابهات بين الحكاية والطبخ اعتقدت دائماً بأن الكتابة عمل أنثوي، وأن الكاتب الرجل بحاجة إلى وقت يقضيه لتأنيث روحه، وتعويد حواسه على الرهافة ومعرفة الاعتدال والقصد في طبخته الأدبية»، ما تحتاج إليه المخيلة الإبداعية للكاتب هو نبش في ذاته، تنشيط وتأنيث الروح، والبحث عن الرهافة الأنثوية الكامنة في داخلنا التي تغير من نظرتنا للحياة بشكل عام والكتابة بشكل خاص.
ما الذي يحتاج إليه الكاتب إذاً؟ ليس مجرد حكايات نسائية تُحكى لتكون الكتابة أنثوية، ثمة نماذج عديدة لروايات أدبية أبطالها من النساء لكنها تحكي حكاياتهن وتحاكمهن بنظرة ذكورية، تلك النظرة لا تختلف عن النبرة السلطوية الذكورية التي تحكم وتتسيّد، ومن زاوية أخرى بإمكان الكاتب أن يخلق رواية أبطالها فقط من الرجال لكنه يقدمهم ويغوص في مشاعرهم من منظور أنثوي، يتعامل مع انفعالاتهم ونظرتهم إلى الحياة برهافة ورغبة في الفهم.
يجد هاروكي موراكامي الكتب «مثل سيمفونيات بيتهوفن التي تتكوّن من نغمات ذكورية عريضة وأخرى أنثوية حادة. ويجد أن القصص القصيرة تقع في منطقة ما في المنتصف بين هذين النوعين» وتقول إيزابيل الليندي إنها في كتاباتها تتكلم «عن الأنثوية، عن التحرّر والانعتاق»، وعندما وصف الكاتب جون فريمان كتابات سڤيتلانا أليكسييڤتش عن تأثير الشيوعية في الكتلة الروسية وانهيارها وعن تشيرنوبيل يقول إنها كتابة على مستوى من الشاعرية والشفافية «ففي كتبها من الجمال والإثارة ذاك القدر الذي تجده في أضغاث أصوات تسمعها في قطار مكتظّ يشق الليل مسافراً».
يحتاج الكاتب إلى مهارات إضافية ليدرب حواسه التي يستقبل بها العالم ويفهمه، مهارات تشبه تماماً البهارات والخلطات السرية التي تحتاج إليها النساء أثناء الطبخ، وفي الحالتين فإن الأنثى وحواسها وطريقة تذوقها للعالم أكبر ملهم إبداعي للكاتب أمام مسوّدته وللطاهي أمام قدوره. النبش في الروح يعيدنا لاكتشاف ذاتنا الأنثوية، أو كما تقول سيمون دو بوڤوار: «نحن لا نولد نساء، بل نصبح كذلك».