في الحلقة الخامسة عشرة من رواية عوليس/يوليسيس/Ulysses، يختم ليوبولد بلوم، بطل الرواية، إحدى الأغنيات التي يدندنها على هذا النحو: With my toolarom toolaroom. يترجمها المترجم المصري د. طه محمود طه صاحب أول ترجمة كاملة للرواية، والتي صدرت عام 1982 بهذا الشكل: «مع تحياتي الناتي كوناتي». ويترجمها من بعده المترجم العراقي صلاح نيازي في الترجمة الكاملة الثانية للنص، والتي صدرت عام 2001، هكذا: «مع ما لديّ من تورا لوم تورا لوم تورا لوم». لا شك أن الترجمة الثانية مفهومة أكثر بالنسبة إلى كل من يتحدث العربية، لأنها، كما هو واضح، ترجمة حَرفية للدندنة اللحنية الختامية، بينما الترجمة الأولى هي أقرب للمصريين ولمن يفهم العامية المصرية عموماً. ورغم عملية الترجمة الثانية، إلا أنها تفتقد إلى مرح الأولى ومرح النص الأصلي بطبيعة الحال، مرح دندنة أغنية بكل بساطة ودون تكلّف لغوي. الترجمة الحرفية في الثانية تتوخّى الدقة، بينما العامية والمرونة في الأولى هما أقرب إلى الروح، لكنهما لا تخلوان من الدقة المحكومة بطبيعة الحال. أي الخيانتين أخفّ؟ في الحقيقة لا توجد إجابة نهائية، الأمر متروك للقارئ، وأي ترجمة سيقبل عليها طالما أن الترجمتين لم تبتعدا عن النص الأصلي.
«وجه» للين عثمان (مواد مختلفة على كانفاس) - 2011

في مطلع هذا العام أعلنتْ دار النشر المصرية «هن» (elles) نشرها ترجمة لرواية «العجوز والبحر» للكاتب الأميركي أرنست هيمنغواي، إلى اللغة العربية العامية، في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وهو ما فعلته في العام الماضي أيضاً حيث قدّمت ترجمة عامية لرواية «الغريب» لألبير كامو. في الحالتين لم يمر إعلان النبأ من دون غضب من بعض المثقفين، معلنين عن ضياع اللغة العربية الفصحى وبعث مسخ اللغة العامية التي، في رأيهم، ستشوّه الأدب العربي في المستقبل العاجل في حال انتشر استعمالها على هذا النحو.
تعيدنا هذه القضية إلى السؤال الصفر: ما هي الترجمة؟ ليست الترجمة، بالطبع، مجرد نقل كلمة أو جملة من لغة إلى أخرى، إنها نقل روح وثقافة ووجود الكاتب والكتاب على لسان مختلف الأبجدية. الترجمة، بكل بساطة، ليست عملية ميكانيكية إنما تجربة إبداعية.
كل ترجمة هي رؤية المترجم للنص الأصلي، يتحمل فيها المسؤولية أمام القارئ وصاحب النص، طالما أنه، وهذه نقطة مهمة، نال حريته الكاملة في نقل النص الأصلي دون مقصّ رقيب أو تهذيب أخلاقي لا يحترم النصوص الأصلية. هي تجربة إبداعية تشبه التبني (Adaptation) مع الاحترام التام للنص الأصلي أي عدم العبث فيه، أي الإضافة عليه أو الحذف منه، يعني تحميل الكاتب ما هو براء منه، وفي الوقت نفسه، إعطاء مساحة من الحرية المرنة التي قد تحتاج إليها بعض النصوص لتصل إلى ثقافة اللغة الأخرى وفقاً لـ«روحيتها» وثقافتها. هكذا يطرح كل مترجم يقدّر حقاً الترجمة والنص اللذيْن بين يديه على نفسه سؤالاً أخلاقياً مهماً: كيف ستستخدم النص الأصلي؟ كيف ستصنع نسخة تجابه النص الأصلي من دون أن تتفوّق عليه؟ لكن ما المشكلة في أن يتفوق النص المترجَم على النص الأصلي؟ إن الإجابة ستكون، بكل بساطة، في أن النص المترجَم سيتحوّل إلى نص مختلف، نسخة لا تشبه أصلها.

يظن بعض المترجمين، ومعهم شطر كبير من القراء للأسف، أن جزالة اللغة وثراء المفردات، والأسلوب الواضح والمفهوم، أي ما يصنف بأنه سهل، كلّ ذلك هو دليل على جودة الترجمة وتمكّن المترجم من أدواته. فنجد مثلاً من القراء من يلوم المترجم على صعوبة الأسلوب، وعدم فهمه لأجزاء من الكتاب، متسلحاً بحجةٍ واهية تنبع من ذاتيته الخاصة التي تزيل اللوم عنه وتلقيه على الآخر، متهمة المترجم بعدم فهم النص الأصلي. غير أن جودة الترجمة تكمن حقاً في إدراك المترجم لحدوده اللغوية والأسلوبية، الحدود التي يفرضها النص الأصلي، والتي لا ينبغي عليه أن يتعداها. بعض النصوص معقّدة، أسلوباً ولغةً، تعقيداً يستلزم من المترجم ألا يبسّط ويشرح النص للقارئ إلا بإضافة هوامش إذا استلزم الأمر حقاً.
ما يعطي بعض المترجمين الحق في استعراض لغتهم العربية الفصحى لغة وأسلوباً حتى لو لم يفعل الكاتب الشيء نفسه في نصه الأصلي، هو ما يعطيهم الحق أيضاً في النظر إلى توظيف اللغة العامية في الكتابة أو الترجمة نظرة احتقار ورفض من دون نقاش، رفض مرونة اللغة و«ليّ عنقها» و«عجنها» إذا استلزم ذلك.
إن المثال الأبرز على التحرّر من بلاغة اللغة في الكتابة، نجده بوضوح مع جيل «البيت» (Beat Generation). الجيل الذي ظهر في أميركا الخمسينيات، والذي كان في طليعته ألن غينسبرغ، جاك كيرواك وويليام إس. بوروز. الجيل الذي شعر بالاغتراب عن مجتمعه وقرر التعبير عن شعوره في كتابة منزوعة الزخرفة، والحذلقة، أو أي بلاغة رفيعة أو استعلاء أسلوبي، فاتجهوا نحو لغة لا تختلف عن العامية، حيث كتبوا حيواتهم ومشاعرهم من دون أي قيود لغوية أو أخلاقية؛ التحرر من تكلّف الحياة بالتحرر من تكلّف تعبيرنا عنها.
يحتاج التحرر اللغوي في الكتابة إلى تحرر لغوي في ترجمة هذه الأعمال أيضاً، وإلا ضاعت نقطة قوتها الأساسية بالكامل. وهو ما نجده مثلاً في الترجمات العربية لكتاب هذا الجيل، حيث فصاحة العربية تتوارى مثل الشبح بينما تنقل كتابة تحمل في طياتها مزاجاً «شوارعياً متحرراً»، فتكون النتيجة أشبه بارتجالة جاز تُعزَف على أرغن! بالتأكيد هذه الترجمات هي بدورها «رؤية المترجم» للنص الأصلي كما أسلفنا سابقاً، لكنها رؤية أقل شأناً من مكانة النص الأصلي، ولا ترقى إليه. هي بالأحرى نسخة تناقض النص الأصلي لأنها تفتقد المستوى اللغوي الذي يشكل الوسيلة الأساسية للكاتب، نعني هنا أسلوبه في الصياغة والتركيب.
ولكن لماذا الدفاع عن العامية هنا والآن؟ إنه الدفاع عن التصنيف ضد الهيراركية. فبدلاً من أن ننظر إلى اللغة العامية في الكتابة أو في الترجمة باعتبارها بمنزلة دنيا، وجب علينا أن نراها بمستوى لغوي آخر. إن الفرق بين «أقل» و«آخر» شاسع جداً، وهذا الفارق هو ما يواجهه الكاتب أو المترجم أمام الورقة البيضاء حيث تلتبس عليه أشباح اللغة العامية، المذنبة بلا أي دليل حيث توصم بالركاكة الأدبية والأسلوب الضعيف، لكنّ براءتها مثبتة عندما يسدل ستار التجريب. لا يجد المترجم أمامه إلا التعلّق بأستار الفصحى فتخرج من تحت يده بطريقة متكلّفة مع استطرادات بلاغية وصفية قد تُرضي آلهة الجوائز وأَرَق القرّاء.
إنه الدفاع عن التحرر الأدبي المطلوب، المطموس في أغلب الوقت من المترجم العربي، تحرر أدبي يتيح مساحة لحرية لغوية تزيح عن كاهله قدسية وبلاغة وآداب لغة قد لا يحتاج إلى توظيفها في النص وحملها على أكتافه طيلة الوقت، بل يستبدل هذا الجهد باكتشاف مساحات بلاغية أخرى تختبئ في الشفهي والعامي، نستخدمها ببراعة يومياً من دون أن نوظف إمكاناتها الهائلة في عالم الأدب.
مسألة اللغة الأدبية مسألة شائكة لا ينتهي النقاش فيها أبداً، ولا يدّعي كاتب هذا المقال أنه ينقد أو يحلل الظاهرة، أو يسعى إلى التقليل من مترجم بذل مجهوداً، يُشكر عليه كل الشكر، في نقل كتاب إلى اللغة العربية إنما يكتب ليعبر عن فكرته لأنه قارئ في المقام الأول، قابلَ بعض الترجمات التي لم يتواصل معها مثلما تواصل مع نصوصها الأصلية، وكمترجم في المقام الثاني، قابلته تحديات لغوية استلزمت بعض المرونة واتساع الصدر، وإدراك متعة الأدب قبل تعليبه في إطار لغوي مقدّس.