«وخيرٌ أن لا تكون شواهدُ بارزةٌ.. وزينةٌ برّاقةٌ-
فهي تثير الانتباه والحسد
إن موتانا لا يحتاجون إليها» - يانيس ريتسوس


الحنين سمة الأحياء حين يكون عابراً ومذكِراً فحسب. ما بُني على غياب لا يصحّ المساس به بذريعة النوستالجيا. فما بالك لو ادّعت جهة ما استحضار إرث مدّعى ومختلق هو الآخر، بحجة تدعيم حاضر يتبعه، مستقبل بأكمله؟
بشكل عام، يتمنى الجميع في حياتهم استرجاع أعزاء انقضى وجودهم، ذهبوا كما يقتضيه واقع الحياة، من أهل وأزواج ومربّين وأحبّة، يخلّفون وراءهم بعض تذكارات ارتبطت بوجودهم: ثياباً، تسجيلات صوتية، صوراً فوتوغرافية...
تُذاع في الفترة الأخيرة تقنية تدعى «الحنين العميق»، مرتبطة بمنصة «My Heritage»، إسرائيلية المنشأ أسّسها متخصصون في علم النسب، يحاول فيها قيّموها إحياء صور الموتى، تحت حجج عديدة. معتبرين أنفسهم روّاداً في مجال التطوّر التكنولوجي، تتباهى هذي الجهة بخلفياتها القوميّة، بمنجزها وتفوّقها، وهي تطال الإرث الذي اشتهروا بسرقته، لكن السرقة هذه المرّة تحصل في العالم الافتراضي.

(رسم: ميليسا شلهوب)

متسلّحين بالذكاء الاصطناعي، يرجون نتيجة غير اصطناعية، من خلال تحريك ملامح الشخصية الماثلة في الصورة التذكارية: نظرات ساهِمة يميناً ويساراً للمرحوم/ة، مع ابتسامة رضى، لا نعرف إن كانت ناجمة عن المكانة التي وصل إليها الشخص في الحياة الآخرة بالضبط أو ماذا. لكننا إن حاولنا تفحّص الموضوع من وجهة نظر المتلقي، فإن تعليق «شيء ساحر» لن يكتمل ما لم يتداخل الشخصي (الصورة الفوتوغرافية للقريب) بالعام (التقنية وادعاءات المنصة الإنسانية). طابع المشاركة والتفاعلِ هذا هو الخطوة الأولى لفضول التجريب، مدفوعاً بفتنةِ أن الغائب يمكن أن يصير فعالاً في الحاضر، ويمكن لدعمه أن يُستعاد، كأن وجوده سابقاً كان دعماً ملحّاً خالصاً وحصريّاً لا شائبة تشوبه، ولا حياة خاصة تعزله. ومن ثم هو الخطوة الثانية للتعويض النفسي عمّا لا يرجع، بالعودة شعورياً إلى واقع ما، بغض النظر عن وجوده الفعلي من عدمه، وعمّا يشعر به الشخص فعلياً في الصورة حينها.
إن المتتبع لردود الفعل يجد في معظمها من يشيد بالأثر الجميل الذي يتركه على المتلقّي، من دهشة أوليةٍ تليها دموع غير إرادية، والجزء الآخر يتبدى رد فعله بشكل سلبي، بنفور وخشية، واختراق لحرمة الموت. إن السؤال هو الآتي: هل من خلال تحريك الصورة بأيّ شكل كان، يعود وجود الشخص بالنسبة إليّ؟ ما الذي تريده الشركة بهذا من الأساس؟
تقوم خاصيّة «الحنين العميق» في عملها على الصورة الفوتوغرافية. إن الشيء الوحيد الذي تثبته الصورة هو وجود الشخص في واقع ما، على ما يرى رولان بارت. فالتاريخ هو زمن لم نولد فيه. أول ما يبدر إلى الذهن هو أنك غير فاعل في تاريخ الشخصية الظاهرة من جانب، وأن صورة الشخصية، وليتم معنى التصوير فيها، هي موقف حي لِمَيت من جانب آخر. إن التصوير إذاً يكذب بشكل ما حول معنى الشيء وليس وجوده، يشير بارت. هو ليس بالمصادفة نفسُ الحبل الذي تلعب عليه الخاصية، أي فكرة الشركة نفسها، وهو عبثٌ في المجال المعنوي للمتلقي وليس المادي أو حتى الواقعي. مع اختلافٍ جوهري وهو لاعب آخر في اللعبة، وهو فعل تحريك الصورة. وبحسب بارت، فإن لبّ التصوير يفسد عندما تتحرك هذه الصورة، فكأنه لم يكن يقصد بذلك إلا ما تلعب عليه منصة «My Heritage». أنت بالتالي لم تحيِ شيئاً ليس حيّاً من الأساس في شعورك ووجدانك وتربيتك، ولم تتلقّ الصورة بتأويلك الحرّ وقراءتك المنفتحة، كما يقرأ بارت نفسه التصوير، بل ما حصل هو تشويه للفوتوغرافيا، من دون الولوج في فعل السينما في الوقت نفسه. وبالتالي من البديهي أنه فعل بعيد كذلك عن نشاط الأرشفة.
تشوّهت الصورة، وحصل توجيه غير مباشر لوعيك الذاتي والمباشر والشعريّ أيضاً، توجّهاً مسيّساً نوستالجيّاً. تعمل النوستالجيا هنا كسياسة توجيه إلى هدف دائريّ مزيّف، لا يوصل إلى شيء، مع احترامنا للذين يحبون التجريب دون هدف، وللعدميين بشكل عام. وكذلك هي تُقصي عن متلقّيها أبعاد قراءاته ككل. فعل «فرانكشتايني» بامتياز إن صح التعبير. إن هؤلاء الذين كان من عادتهم نبش قبور الموتى وسرقة أسنانها الفضّية والذهبية، ليس بمستغرب منهم إحياء الموتى أنفسهم من أجل سرقتهم.
تدّعي المنصة إذاً بهذا، إفادتها لمؤسسة «العائلة» تأطيرياً، لكنها في الوقت نفسه تحصد المعلومات وتوسع من قاعدتها البيانيّة، مستفيدة من الرواج من جهة بعدما حوّلت كل هذه الخصوصيات إلى موادّ اجتماعية، ومن مشاركتك الحرّة بخصوصياتك، ثم تحوّل كل هذا إلى ربح مادي من جهة أخرى. استُخدم في الحاضر لدعم المؤسسات الإسرائيلية في الأرض المحتلة، بالإضافة إلى خسارة معنوية لك كمشترك يتلقّى صورة مشوّهة متزعزعة، لا جدوى ترجى منها.
وليس الأمر في حاجة إلي تحليل واسع لاكتشاف اللعب على العقول، إذ إن السحر ينقلب على الساحر إذا أخضعت المعطيات والادعاءات تلك للتفكيك، فاللعب على وتر النوستالجيا لا يخبّئ خلفه سوى أيديولوجيا محددة. وإذ كانت النوستالجيا هي وسيلة الترويج، فقد حكمت مسبقاً على نفسها بأنها أيديولوجيا زائفة. وفي مجتمع قائم على المشهد والصورة، تغزو فكر الإنسان ووعيه، بغضّ النظر عن قيمتها الفعليّة، كان طبيعياً انتشار تقنيّات مماثلة، إنما ليست كل التقنيات هدفها «تسلية» مدفوعةُ ببروباغاندا مماثلة.
إن أحد تعريفات الحضارة يحضر في هذا السياق، وهو يتمثل في مكافحة الظروف المعيقة لخلق ظروف ملائمة للحياة الإنسانية وتذليل الموارد الطبيعية. لذلك، وقد يجتمع هذا التعريف مع ما قاله بارت بشأن التصوير: «بوصفي روحاً حية، فإني أكون على الضد من التاريخ نفسه»، الأمر الذي سيدفع حتماً لاتخاذ موقف قطعي غالباً، لحبال الحنين، عميقاً كان أو سطحيّاً، وأن «ندع الموتى يدفنون موتاهم».
وكما حصل منذ وقت على سبيل المثال، عرض المصريون على العالم حفلة نقلهم للمومياءات الملكية، ارتدوا ثياب الفراعنة والتفّوا حولها؛ إن كل هذا لن يجعلهم حملة ذلك الإرث الحضاري فعليّاً، كذلك الأمر مع النوستالجيا الفوتوغرافية، فرعون تفرعن، لن ولم يردّه أحد من حينها.
سلعة هذا العصر الأكثر رواجاً، هي الصورة. والتكنولوجيا هي معجزة هذه النبؤات الزائفة، يستخدمها الإسرائيليّ لخلق إيمان بما هو غير موجود من الأصل، وليس ببعيد أن يصل الأمر يوماً إلى إحياء الموتى فعليّاً لا صورهم فحسب، من أجل اختلاق إيمانٍ كهذا. وحتى حينها، ادفنوا موتاكم جيّداً، فإن إكرام الميّت دفنه فحسب.