يحلّ الظلام. المدينة في سبات أو تصطنع النوم. يحلّ الاحتيال. هذه المدينة كعجوز فقدت كل ما تملك إلا أنيابها. كل المدن بوجهين. مطرٌ يتساقط لا بوتيرة خفيفة ولا بغزارة تُعيق السمع بل يتساقط باعتدال. «في آخر أيام الربيع المطر يتساقط ولا ينهمر، على ما يبدو إن الحيرة تكمن في الخواتيم»، بهذه العبارات يحب «باكو» وصف الأحوال الجويّة. ولمَ الحديث عن المطر الآن؟ المشهد اعتياديّ والرحلة تبدأ بلا هدف. ينطلق «باكو» بسيارته التي تشبه الخردة ورؤيته شبه محجوبة. يترك النافذة مفتوحة بشكل كامل ليدع نصف يده تتدلّى منها. «ساكو» على يمينه يتذمّر. كل شيء اعتيادي: النافذة مفتوحة، والصديق يتذمّر، والمطر يُلاعب اليد المتدلّية. المشهد يكتمل. ينحني «باكو» إلى الأمام، عيناه فوق المقود فيما ذقنه بموازاته. يتفقّد زجاجته وقد انزلقت صوب المكابح. كل شيء اعتياديّ، وينطلقوا. المشهد مكتمِل.«باكو»: أجمل ما في المدينة أنها فقدت عذريتها منذ أول مدينة.
«ساكو»: أسوء ما في المدينة هو أنيابها التي لا ترحم.
«باكو»: شغّل الراديو وارفع صوت موسيقى «البلوز» عالياً واستمتع. غداً سيستيقظون وستدب الحياة.

(تصميم: فرانسوا الدويهي)

في بحثه عن المخرج من دوامة الألم أو ما أسماه بفن السعادة، اقترح الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور ثلاثة طرق للإفلات من قبضة الإرادة، التي ارتأى أنها تبعث، في نهاية المطاف، على اليأس. يبدأ أولها بالسلوى عن طريق الفن، فيما ثانيها، فقوامه الخلاص الذي يأتي بروح خلقية رؤوفة تجاه كل مكوّنات الحياة بما فيها النباتات والحيوانات. انفلات شوبنهاور من قبضة الإرادة، أفضى إلى خلاصة تجلّت بأن أورث ثروته لكلبه.
في الإعادة إفادة. يأخذ باكو من جديد وضعية الانحناء ويمسك الزجاجة التي لا تنفكّ أن تنزلق. هذه الزجاجة لا تستقيم. في المقابل، يُدندن «ساكو» بصوته الناشز ويلعب بيديه الـ«غيتار سولو» وكأنه يعزف على الهواء.
«ساكو»: إني فاقد للشهية، من الممكن أن تكون علامة لبداية زكام أو نتيجة التبدلات المناخية السريعة.
«باكو»: مرّ أسبوعان وأنت على هذه الحال. لا هاته ولا تلك. إنّي فاقد للرغبة. فقدتُ كل شيء حتى الخريطة هنا على فخذي وقد تسبّب بها حرق لمّا كنت طفلاً. كل شيء إلّا ذلك الصوت.
«ساكو»: بلا كليشيهات وتفاهات: «فقدتُ كل شيء!». فاقد الشيء لا يعطيه. (يضحك ساكو بشدّة، يغدره لعابه وينطلق كالطلقة باتجاه الزجاج الأمامي). أيّ صوت؟
«باكو»: صوت يسكنني ولا يهدأ، نادراً ما يفسح مجالاً لصوت آخر. تلك الفرصة التي هربتُ بخُبثي من الاستجابة لها. أسوء ما فيّ مَكري والأجمل أنني الخاسر الوحيد (يقول بسخرية). تلك الرغبة، فقدتُها.
«ساكو»: شو أخبار صديقتنا؟ كيف الحااال؟
«باكو»: لا لم أقصد هذا. رغبتي في بدء أي شيء والاستمرار به. الرغبة في الاستقرار تتلاشى. الخوف من الخيبة والإحباط يبلغ ذروته. كيف لي أن أنفصل عن الواقع؟
كل الآمال التي تُبنى على قاعدة سطحيّة وهشّة، وغالباً ما يُطلق عليها البعض صفة اليوتوبيا، وكل التوقعات التفاؤلية – المضخّمة – تقود إلى الانفصال عن الواقع، وفي الغالب ستكون عواقبها الخيبة والإحباط. هذا ما توصّل إليه شوبنهاور باعتقاده أن منهج التشاؤم الدفاعي يقدّم لنا حصانة نفسيّة لكلّ ما نمرّ به من عقبات.
في مراحل تطوّره، وحتى في أسبابه، يكون الفقدان دافعاً من دوافع الاكتئاب. تلعب مرحلة الطفولة دوراً حاسماً في تحديد علامات الاكتئاب، فالصدمة التي تصحب الفقدان في تلك المرحلة تُضاعف احتمال أن تكون سبباً وراء نشأة الاضطرابات. وغالباً ما يتصاعد الشعور بإحاطة الفقدان من كلّ الجوانب، وتتدهور الحالة أكثر فأكثر؛ يزول تقدير الذات، يتلاشى الإحساس بها تماماً وتتلاشى معه أيّ قدرة للاعتماد عليها. هنا، يمكن القول أن الفقدان سيتحوّل تلقائيّاً إلى اتّكال ومنه إلى خوف طفولي.
يصف الكاتب والروائي الأميركي وليام ستايرون في كتابه «ظلام مرئي: مذكرات الجنون» اليأس بأنه الجوهر الذاتي للاكتئاب. في كتابه الصغير هذا، يتحدّث ستايرون عن تجربته مع الاكتئاب في رحلة مستعجلة إلى باريس عام 1985 لاستلام جائزة كان يُفترض أن تعيد له إحساسه بذاته على نحو رائع. يقول الكاتب الأميركي: «وحتى إذا استشعر المرء بعض الارتیاح، فھو يدرك أنه مجرد ارتیاح عابر، وأن مزيداً من الألم في انتظاره. إن الیأس ھنا ھو ما يَسحق الروح بدرجة يفوق بھا ما يفعله الألم». ينتاب ستايرون، وهو في أيامه الأربعة في باريس، شعوراً بأنه لن يعود إلى باريس مرة أخرى. ورافقه، إضافةً إلى هذا الشعور، شعور بضيق شديد، مردّه أنه لا يستحقّ كسب الجائزة، وهذا نابع من الاكتئاب التي تظهر علاماته في سهولة تقبل الخسارة، وفي كراهية النفس، والشعور بعدم استحقاق أي شكلٍ من أشكال التقدير.
يزيد في كتابه «باكو» من السرعة بين الحين والآخر، يرفع «ساكو» صوت الراديو ويخفضه بوتيرة لا تُطاق. كل شيء اعتياديّ.
«ساكو»: لا تظنّ أن ما ينتابك هو مشاعر فرديّة، لستَ وحيداً، الجوّ العام أخي. ما يصحّ على شعورنا من خيبة الأمل يصحّ على الجميع.
«باكو»: لا يهمّني الجميع يا أخي.
«إن ما يحدث في العالم اليوم من خيبات إنّما هو نتاج الإرهاق»، يقول الفيلسوف الفرنسي أندريه كونت سبونفيل. يمكن أن يكون الوصف الأدق لخيبة الأمل أنها الشعور الذي ينتاب الإنسان عندما يقع في معضلة المقارنة بين ما كان يأمل به ويتطلع له، وبين إدراكه إلى ما آلت إليه الأمور واقعياً.
تُعتبر منطقة «العنان الوحشي» (Lateral Habenula) وهي جزء من الدماغ بحجم حبّة صغيرة، منطقة مسؤولة عن مشاعر الحزن والاكتئاب والسلوك الدفاعي. هذا الجزء الصغير من الدماغ يساعد الإنسان على تعلم الدروس من التجارب السيّئة الناجمة عن فعل سيء اعتاد أن يقوم به، والسعي إلى تجنّبها؛ بمعنى آخر، يَنشط شعور الإحساس بالذنب. وتُشير دراسات حديثة إلى أنّ هذا الجزء من الدماغ منطقة أساسيّة لاتخاذ القرارات المهمة للإنسان. لذا، توصّلت بعض الدراسات إلى أنّ إحدى طرق معالجة الاكتئاب بواسطة تيار كهربائي خفيف للدماغ تُوقف أو تُعطّل عمل منطقة «العنان الوحشي»، وبالتالي ينعدم لدى المرء الاكتراث بقرارات الحياة واهتماماته.
«باكو»: أتعلم ما أفكر به أحياناً؟ وهذا ما يفقدني الرغبة حتى إلى سماع الموسيقى، التي كنتُ أعتقد أنها كل ما أملك إضافةً إلى الخريطة على جَنبي الأيسر... أن السعادة التي تحصل عليها بالحصول على أيّ موسيقى تبتغيها بسهولة تامة ومن دون أيّ عناء، هو بذاته معاناة. هذه الرفاهية في الامتلاك تبدّدها. السعادة مخيّبة للأمل.
«ساكو»: صحيح، يذكّرني ذلك بالمنافسة، لم أرد يوماً أن أنافس أحداً، ربما لأني لا أمتلك المهارات؟ لم أجرّب حتى لكي أعلم.
يؤكد شوبنهاور أن الأصل في الحياة هو المعاناة. المرء بطبيعته توّاق إلى ما لا يملك، وهو أسير رغباته، وهذا ما سهّل نقطة الانطلاق للنظام الرأسمالي في رحلته وراء الإنسان لالتهامه؛ عند إنتاج أيّ سلعة جديدة ينطلق النظام الاستهلاكي بهدف مقابل لا شيء. أنت في صراع دائم بين ما تحوز عليه وما ترغب به. أنت في هدر دائم لطاقتك في التخطيط وفي رسم الحيل والمنافسة. أنت في قلق دائم، في مشاكسة لا تنتهي مع الفراق والفشل، والموت.
تبدأ رحلة وليام ستايرون في العلاج عند أخصائيّ في العلاج النفسيّ، بمواكبة زوجته روز التي كانت تستمع إلى شكاويه بصبر جميل. يصف ستايرون المعالج النفسي بأنه «يوفر على الأقل بؤرة يمكن للمرء أن يوجه نحوھا طاقات الموت، ويقدم العزاء إن لم يستطع أن يمنح الأمل، ويصبح وعاءً لسیل من الأحزان على مدى خمسین دقیقة ترتاح خلالھا زوجة الضحیّة أيضاً». وانتهت الأمور أخيراً مع ستايرون بدخوله إلى مستشفى الأمراض العصبية، حيث استخلص من تلك التجربة النتيجة التالية: «في المستشفى، تشاركت مع المرض ما قد يكون المعروف الوحید الذي يسديه الاكتئاب على مضض لضحاياه، وھو حالة الاستسلام التام».
شوارع المدينة تُظهر بؤسها وجانبها الوحشيّ أثناء عرائها ليلاً. لم يعد لباكو القدرة على القيادة. يغيّر في وضعية جلوسه في أقلّ من أمتار معدودة. يأخذ المسافات الأبعد لكي يُرِيح قدميه ولا يُضطر إلى وضعها على المكابح، فتنزلق الزجاجة. هذه الزجاجة لا تستقيم!
«ساكو»: عند كلّ بلوغ لساعات الفجر الأولى أشعر بغثيان مُريع يا رجل. لا أطيق! ربّما هذا يشبه الصوت الذي لا يَفنى في رأسك.
«باكو»: الضجيج قاتل هنا، أبعد من طنين الأذنين، أشبه بلحن مجنوت لفاغنر. زحمة قلق يا أخي. الصدأ يستفحل بي: هذا الصوت الذي لن يزول، هذا الجرح الذي لن يَندمِل.