تقفز من رصيف إلى آخر على تقاطع «بشارة الخوري» في محاولة للنجاة بحياتك من محاولة دهس غير متعمّدة، تعبر تحت إشارة مرور مُطفأة فيما يسند رجل البوليس عمود الإنارة بظهره، ضجرٌ ينتظر مرور الوقت، غير آبه بتنظيم حركة السيّارات التي تتخبّط عشوائياً في أربعة اتجاهات. إن تجاوزت التقاطع، يعني أنك تجاوزت الامتحان الصعب. حسناً، ما زلت على قيد الحياة. «زمطت». تمشي وتستمر بالمشي. تمرّ بجانب حاوية قمامة وإذ برائحةٍ متخمّرة تعبق، رائحة تخبرك بعمر النفايات، وكم من الوقت قد مضى عليها، ويباغتك مشهد تراجيدي لم يفكر حتى شكسبير بتصويره: أقدامٌ في الهواء تتدلّى فيما باقي الجسد غير مرئي، غارقٌ داخل الحاوية. جسد يخص طفل لم يتجاوز عمره العشر سنوات. طفلٌ من المُفترض في عالم عقلانيّ بعض الشيء، أن يكون في منزله، لكنه هنا، يأخذ من سلّة الحاويات غرفةً له. أهلاً بك في لبنان. هذا الطفل يبحث في حاويةٍ مسمومة، قذرة، مطفأة لا ينيرها سوى حاسّة اللمس وانعكاس خافت قادم من يافطة مطعمٍ مكانه ليس بقريب، عن التنك، وعن البلاستيك لكي يبيعهم بالـ«كيلو».
(غونزاليس كوك، «الشم»)

الفجوة الطبقية الكريهة الموجودة في بلدٍ صغير مثل لبنان تهبّ منها رائحة النفايات. يصح أن يكون القول الأنسب أن رائحة النفايات التي تسيطر على شوارع وأرصفة هذا البلد، هي الرائحة التي تنسل من الطبقة التي تعلو على نقيضتها وتجلس عليها، تلك التي تبسط رجليها على الطبقات الفقيرة في تفاوتٍ يثير الغثيان ويدعو للتقيؤ. أنظر كيف أن المدينة بأكملها مُطفأة لكن منزل «صاحب الجلالة» مُضاء ليل نهار. أخبار حارتك ليست جديدة وهي شبيهة بأخبار البلاد عامة: العائلة أرسلت ولدها ليتعلّم في الخارج، وقد حثت بقية أفرادها على العمل لتوفير مصاريف المنزل، بينما يعبّد «صاحب الجلالة» الطريق أمام ابنه ليحكم البلاد، وطبعاً، لا يتوانى عن إرسال رجل البوليس بمهمة مرافقة أي الحفاظ على حيطة وأمن عائلته عندما تريد الذهاب للتسوّق.
إنني ومنذ وُلدت، أعلم أن سوليدير وحش رابض يقبع خلف أحيائنا في العاصمة، وأنها منطقة محظورة «علينا». تبدو سوليدير ذات منظر مهيب من الخارج، لكن نظرة فاحصة سريعة كفيلة بأن تراها أشبه بأريكة فخمة ونظيفة وسط بيوت عناكب، وأبواب مُخلّعة وجُدران تقشّر طلاؤها.
إن الفقر المنتشر في مناطق الأطراف، وأحزمة البؤس التي تحيط أطراف العاصمة، ليس واقعاً موضوعياً جاء مُنزلاً، أو بالفطرة، وليس قدرياً. لقد سبقه تصميم ممنهج وهندسة مقصودة من شأنها شرخ المجتمع إلى فئتين: فئة تقف في طوابير وتعيش على هامش الحياة، وفئة تعرف المطاعم والإضاءة. الفئتان بالأحرى هما مجتمعان: مجتمع يرمي القمامة ويراكمها مقابل مجتمع يقبع داخل القمامة، وهو إذا لم يغرق فيها، ففي أفضل أحواله، يختنق من رائحتها.
الأطراف مناطق صنعت لتكون وقوداً يبقي «المصنع» قيد التشغيل. المركز، ممثلاً بسوليدير، يريد أن يبقى مرتّباً، جالساً على أريكته متأنقاً، يتردد إلى المطعم كلما شعر بالجوع أو بالضجر. ومنذ أن تعرفت إلى سوليدير وأنا أحلم كيف سيكون تحليل كارل ماركس لو كان على احتكاكٍ واطّلاعٍ على حال مجتمعنا. ماذا سيكون تفسيره لذلك الإشهار الركيك الذي يقول بكلّ ثقة ووقاحةٍ: «كلنا نعاني»، ووفقاً لأي منهج سيحلل امتعاض رئيس الوزراء عندما أفصح بجملته الحزينة، عن تصوّره البائس للعالم وكأن مخيلته تهددها مشاهد «الأبوكاليبس»: «ما بقى فينا نروح عالمطاعم» (لم يعد بإمكاننا أن نزور المطاعم).
جميعنا يعلم أن فقر الأطراف، والبؤس المنتشر في الأحزمة هو نتيجة مطحنة الاقتصاد المُطرّز على مقاس مصالح رأس المال، وهو ليس بظاهرة حديثة النشأة، فحركة التاريخ تخبرنا عن الانقسامات الطبقية التي أصابت المُجتمعات، عن تلك التي تستأثر بالثروات وأولئك الذي يحظون بالنذر اليسير. بيد أنه، وممّا لا شك فيه، أننا في محطة تاريخية فاصلة من لبنان، بحيث ما تلبث هذه الفجوة أن تتضخّم، وتتسع، لتضم إلى طاقمها وصوليين جدد، يستثمرون في الأزمة، ويعرفون من أين تُؤكل الكتف.
هل صحيح أننا «كلنا نعاني»؟ هذه جملة يحبّها التلفاز ويعشق المراسلون سماعها. هل من يمر بأزمة «الانقطاع عن المطاعم» هو من الذين يعانون حقاً؟ الجواب يبدو مضحكاً بعض الشيء، والتوغّل في هذه المسألة ضياع وقت محض. الأثرياء يراكمون النفايات، وألوان الأكياس التي يستعملونها، عادةً ملوّنة. هناك من عرفناهم من وجوههم التي ألفناها وعرفناها لسنوات طويلة، وهناك من بتنا نعرفه من رائحته. هؤلاء لا يردعهم خجلهم من النحيب والشكوى عن تضرّرهم من الأزمة. يتموضعون مع المستغَلين، ويتقمصون خطابهم، إلا أنهم، بالودّ الخبيث الذي يظهرونه، وضحكتهم الصفراء، ولغتهم المتكلّفة التي تظهر على أنها لغة محايدة، يريدون أن يقفوا في «الطابور» المستغلِين، وبالرغم من ذلك، إن كيس نفاياتهم الملوّن يفضحهم.
«راسكولينوف» القابع في العوز والفقر، بطل رواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي لم يقتل المرابية العجوز «إيفانوفينا» حباً بالقتل، أو لأنه يهوى السرقة، ولا لأنه معتلّ نفسياً. لقد دخل «راسكولينوف» في صراع نفسي عميق مع الندم جرّاء فعلته. ما أراد «راسكولينوف» فعله، وبالتالي ما أراد دوستويفسكي قوله، هو قتل الفكرة التي تقوم عليها المرابية، هو قتل للنموذج، «إيفانوفينا»: التي تستغلّ حاجة طلاب الجامعة للمال، فيرهنون لها حياتهم. وبين «راسكولينوف» و«إيفانوفينا» تفاوت طبقي رهيبٍ أودى إلى نهاية مأساوية. وعلماً أننا نطمح باستبدال الحياة بالأدب، إلا أن عجزنا هذا لا يلغي أن ندرك حقيقة المأساة الحاضرة، وأن النفاذ منها يقتضي رمي القمامة في وسط المركز، في جعل «سوليدير» مثلاً، مكبّاً لها. هكذا يمكن للأطراف أن تتنفس هواء منعشاً، فيحضر الخلاص، ولو كان سبيله «أدبياً».