الموضوع هنا أقرب إلى تعقيبٍ سوسيولوجي منه إلى مقالة تمرّ مرور الكِرام. إنّي أحاول جاهدةً تصديق أن جمالنا يكمن في أننا غير كاملين، أن النقص الذي فينا هو ما يشكلنا وأن غرابتنا هي ما تجعلنا على ما نحن عليه، لا نشبه أحداً. إذا حصرنا كل ما سبَق وقلناه بمقولةٍ واحدة، نستطيع عندئذ أن ندلي بتلك القاعدة الساذجة التي ترعرعنا على سماعها، تلك التي تقول: إن اختلافنا، في الشكل والجوهر، هو ما يكون عليه وجودنا.
في عصر تستبدّ فيه الصورة الجليلة عن «الجسد الكامل» وتهيمن بأبعادها وتفاصيلها على الناظر في المرآة أو على الناظر إلى الآخر، صديقاً كان أو جاراً غريباً، فالقاعدة هاته تشذّ، ويغدو كل من يحذو على شرطِها ثرثاراً مليئاً بالنفاق.
نحن كاملون. هكذا نبوح في أنفسنا سراً. أما في العلن، فقد اعتدنا أن نُقصي كل من لا نراه كاملاً، على قاعدة أن كل من لا يشبهنا فمصيره الزج في زنزانة معزولة بحكمٍ مؤبّد كون القابع في داخلها موصوماً بالعار. المصابون بإعاقة جسدية، أولئك الذين بقي جزء من أعضائهم معلّقاً، أعضاؤهم لم تكتمل أو أصيبت بعطب، يعلمون بشأن هذا النفاق ويعلمون أنهم استثناء عن القاعدة. هم شاهدون على ذلك النفاق وهم ضحايا تلك القاعدة. عدا عن الجرح الوجودي النازف الذي يصيبهم، إلا أن جرحهم هذا يتّسع يوماً بعد يوم. تخيّل مثلاً أن نحرم شخصاً من وظيفة لأنه مقعَد، أو أن نهمّش في عروض الأزياء أجساداً لا تناسب معايير الجسد الكامل. كأن نفترضَ أنه بمجرّد أنك وُلدتَ بدون رِجلٍ أو فقدتها في حادث أليم فيكون عقابك الإقصاء والعزل لتصبح على هامش الحياة. في الحقيقة، لا يهمّ كيف تسير عارضات الأزياء على المسرح، إن جاءت خطواتهنّ إلى الأمام أو الوراء، بتراصٍ كخليّة جنود أو منفردات كلّ على حدة، يبقى أن طريقنا وطريق الأجساد المهمّشة لا يمران من هناك.
عندما أتجوّل في الشوارع، إن كان ذلك في شارع الاستقلال في إسطنبول أو في فرن الشباك أو سوق طرابلس الطويل، فأول ما يلفت انتباهي هو واجهات محال الألبسة والأحذية. أنظر فأرى مانيكان يستعرضٌ أمامي هيئة الجسد الكامل وشكله. للوهلة الأولى، تظنّ أن ساكني هذه الواجهات هنّ عارضاتُ أزياء محترفات، يتّخذنَ وضعيات تصوير جادة ومحترفة. يقتحم المانيكان وعيي وأرى نفسي في ذلك الفستان المخطّط، أو ذاك السروال الضيّقِ الذي يُظهر، على ما أعتقد، منحنيات جسدي الذي أراه جميلاً وكاملاً. أصدّق ما أراه، فيجعلني المانيكان الذي يعكس الصورة الجليلة عن هيئة الجسد الكامل أصدّق ما يجول في خيالي. بيد أن نتائج دراسةٍ نشرت في أيار 2017 أظهرت أن أحجام المانيكان هي ذات وزنٍ أقل من الطبيعي بنسبة 100% للنساء و8% فقط للذكور، وجاء في الخلاصة أنّ الحجم المستخدم للإعلان عن الأزياء النسائية غير واقعي ويعدّ غير صحي من الناحية الطبية. يخدعني المانيكان كما يخدعنا جميعاً. يجعلني أصدّق أنني إذا ما اشتريت القطعة المعروضة عليه، القطعة التي يرتديها، فسيجعل منّي عارضة أزياء خارقة فقط لأنني أتمتع بجسدٍ كاملٍ.
حجم المانيكان المعروض أمامنا نحيف للغاية، قياسه الصفر يعزّز صورة غير واقعية للجسد، لكن خطورته تكمن بأنه يقصي الأجسام غير الكاملة. أنا أندرجُ في خانةٍ معيّنةٍ ضمن جدول المقاييس، وبالتالي فإن سحر المانيكان سينطلي عليّ. لكن أيّ شخصٍ فاقدٍ لأحد أطرافه، أو مصابٍ بإعاقة، هو غير معنيّ بكل هذا العرِض. كأن المانيكان منافق أيضاً وثرثار، أو كأنه ديكتاتور يحتفي بالأجساد الكاملة، ويبغى الترويج للصورة الجليلة عن الجسد الكامل، ويغيب كل اختلاف وتنافر مع هذا الشكل.
يصدف أن يكون هناك تماثيل فاقدة لأحد أطرافها. قد تكون هذه الأطراف مكسورة أو مخرّبة. المهم أننا غالباً ما نراها على هامش الطريق، في سلّة المهملات أو على جانبها. ليس للجسد المصاب بإعاقة، أو المبتور أحد أطرافه، أو المصاب بعطب عقيمٍ من مكان يحتويه سوى جغرافيا الشفقة. هو في الواقع غير موجود ومن المستقصد أن يكون غائباً. على الأرجح إن من فقدَ يداً أو رِجلاً، أو وُلد بدونها ليس له مكان ولا مكانة في جدولِ حسابات أرباح شركات تصميم وتصنيعِ الملابس. هو ببساطة جسدٌ غير معترفٍ به، جسدٌ مهمل يقترب من منزلة العدم، وعليه فإن تغييبه ضروري. يؤدي المانيكان الذي يظهر الجسد الكامل ويعرضه، دور هذا التغييب كما أنه يؤجج من تهميشه. بمجرد أن يلغي وجود الجسد المعوّق من خلال عدم إظهاره أو تمثيله، فهو بالتالي يجعل منه شكلاً غريباً. المانيكان يريد أن يخفيه لأنه، في اختلافه، يعدّ قبيحاً، ما يجعله تلقائياً غير مؤهل للعرض. وكأن المانيكان في مصيره عندما يتعرض للتلف أي عندما يتخرّب أو ينتزع يبوح للجسد المعطوب بحقيقة مكانته: «مكانك على الهامش، فابقَ هناك كما أنت، جامداً فلا تتحرك». فالمانيكان المخرّب يوضَعُ بعيداً عن العين. يخبّأ بحيث لا نراه وكأنّه ارتكب جريمةٍ بحق الموضة وبحق الجسد الكامل.
تعزّز جغرافيّة الأماكن نظريّة إقصاء كل ما هو عليل، والمبتور، والجسد «غير الكامل» المغيّب. في وسط مدينة بيروت، في أسواق الـ High ends على سبيل المثال، لن تجد أشكالاً عمرانية لا تمثّل المكان بشكله الكامل، علماً أن المكان هناك قد توفي منذ فترةٍ طويلة، وإذا تحسّنت أوضاعه قليلاً، فهو، في أفضل أحواله، في غبيوبة. المكان هناك شاهدٌ على فراغه. أسواق سوليدير تكاد تخلو من الحياة، لكّن الإصرار على إبقاء الواجهة جميلةً مستمر. تأتي مقاربتي هنا على الشكل الآتي: سوليدير في غيبوبةٍ سريريّة كاملة، وربما هي الأحداث والاحتجاجات الأخيرة والتظاهرات الشعبية التي أعادت لها الحياة، لكن الواجهات هناك تؤدي دور المانيكان وتغطي على الخواء المستشري في تعبئتها للفراغات وجعلها من المكان «كاملاً». تحسبها تقول إن المكان هنا كامل، وجميل، والحياة فيه منعشة. للمكان الخاوي أو المكان المدمر نصيبه من تهمة «النقص»، وهي التهمة ذاتها التي تعتري الجسد غير المكتمل، الجسد المصاب بإعاقة، المعطوب، أو الجسد المبتور أحد أطرافه والذي يتم تهميشه وعزله. إن خطورة الموضوع تنطوي عند إدراج هذا الجسد، الذي صنّف بأنه غير مألوف، إلى مرتبة الأخلاق وربطه فيها، حتى تصبح الإشارة إليه تدلّ على أنه عار كونه يُعدّ ناقصاً.
إني أحاول جاهدة أن أجد جواباً عن السؤال: لماذا لا يُعاد استعمال المانيكان «المخرّبة»؟ لمَ الإصرار على تخبئةِ صورةِ ما هو غير مألوفٍ؟
أرى تلك المانيكان في سلالٍ ضخمة للمهملات وأعتقد أنها جميلة. للغة شكل ومضمون وتصورات، وهذا ما يجعل منها بأماكن كثيرة أداة نفاق. إن تسمية هذه الأجسادِ بأنها مشوّهة، وتصويرها على أنها ناقصة، والكلام عنها بأنها خارجة عن النطاق الطبيعي فقط لأنها عاجزة عن تأدية دور اجتماعي، كما أنها لا تروق لمن اعتاد النظر إلى «المألوف» هي، بحد ذاتها، لغة مشوّهة تكرّس ممارسة استبدادية، إقصائية، تعكس منطق صاحبها. تُرمى المانيكان «المخرّبة» ولا يُعاد استعمالها، علينا جلب المانيكان «المخرّبة» وإعادة استعمالها. اعتبروها شكلاً من أشكال المقاومة واحتفوا بالعطب والبتر بيننا.