من دون سابق إنذار، يرى نفسهُ حديث الساعة. ومن دون أن تُعطي قاطِرة نجم الـ«تيك توك» إشارة، يجد فجأةً، غرفة جلوسه معروضة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. يزيل نجم «تيك توك» الغطاء عن حميمية المجالس. يصوّر عن كثب حركة الحنّك، يُظهر كيفية المضغ، ينقل مباشرةً صوت الهضِم ويقرّب الكاميرا على حركات يد الجائع وهو يأكل. فمن شروط عمله: عرض كرامات الناس في سوق الاستهلاك الرقمي الذي يشكل مصدر رزقٍ لهُ. وهو سوق يتزايد عليه، بوفرةٍ، يوماً بعد يومٍ، ونقرة بعد نقرة، الطلب. في مسلخٍ ليبَيْع المُشاهدات، لا يوجد أيّ رادع للمكان الذي من المُمكن أن يصل لهُ جزّار الخصوصية، نجم «تيك توك».
من منّا يُحب أن تُعرض غرفة جلوسه على التلفاز؟ أن تستيقظ ذات يوم وترى دواخل بيتك معروضة في اللوحات الإعلانية مثلاً، أو أن تكون مُعاناتك ومكانتك الطبقية البائسة مادّة للتسلية ومشروعاً مربحاً يراكم عليها ذلك النجم ثراءه. يبدو الأمر عندما نعطيه هذه الأوصاف، ديستوبيًا بعض الشيء، و كأنه مُبالغٌ فيه، لكننا نعيش في عالمٍ مليء بالعيون المتربصة في قميصك الداخلي. في عصر «الأخ الأكبر»، بطل رواية 1984 لجورج أورويل، فيما بات لهذا «الأخ الأكبر» إخوة كبار، يتزايد عددهم باستمرارٍ، من دون أن تعرف من أين يجيئوك بسلاحهم الفتّاك، بكاميراتهم، ليضعوك كغرضٍ للبيع في أسواقهم الرقمية.

«غرفة كارثية». أندري تيبا.

«الأخ الأكبر يُشاهدك»، تلك عبارة جورج أورويل في روايته التي تصف لنا عالم النظام الشمولي الذي يتدخّل في تسوّس أسنانك، ويعلم كم ضرساً لم يسقط من فمك بعد. إنه العام 2023 لكنها ١٩٨٤ على مدار أورويل. عالمه الديستوبي هذا، هو واقعنا تحديداً. نستطيع أن نلمسّه وأن نراه في مظاهر مُعاشة، وشخصيات حياتية موجودة. بات يمكننا أن نتعرف على «الأخ الكبير» من خلال نجم «تيك توك» الذي يُشاهدنا. كيف يُمكن للمرء وصف جهاز الرنين المغناطيسي المُستعمل لكشف الروح؟ يُقبِل عليهم برداء البطل الخارق الذي يُخبّئ تحته ميكافيللي صغيراً، متمماً الغاية غير آبه بالوسيلة.
إننا، قاطني هذا العصر، بُتنا مُعرّضين جميعاً، في البيت والشارع والعمل إلى الكشف، بمعنى الفضح أي التعرية، ذلك من خلال استخدام الأشعة السينية. هذا ليس المايتركس، ولست هنا بالميتافرس (بعد)، لكن كل تلك الأشعة تخرق الواقع كل يوم وتعكس وهجه إلى فضاءات تسمح لملايين الأعين من مشاهدة واقعك ومشاهدتك أنت وعائلتك. حتّى في كهوفنا التي شيّدناها لنسيّج حياتنا الشخصية، ففي يَد كُلّ شخص آلة تفحص عظام المرء حيثُ يخبئ ذاته. بعد الثورة التعليبية المستمرة منذ السنوات الأخيرة، باتت اليَد القابضة على هاتف محمول تشبه اليَد القابضة على الزناد في حرب لا تسمح بالمغفرة. إنها مُستعدّة في أيّ وقت لتفريغ مُحتوى رأس العدو على الحجارة. وإنها ليست بمبالغة إذ نخلق هُنا طرفيّ صراع ونقول: «إن عداوة نشأت بين الطرفين إثر ذلك». فنجم «تيك توك» يُشكّل تهديداً للآخرين، وصار يُعتبر، بما يفعله ليؤمن لقمة عيشه، عدواً. فهو عندما يعرض كرامة الإنسان للبيع في سوقه، يفعل ذلك من أجل جباية المُشاهدات التي تُعطي الشركات مُقابلها المال، بكلّ ما في الأمر من وضوح وبساطة. وأيّ تبريرات أُخرى تُعطى أو أسباب أُخرى تُقال، ليست سوى خِداع في خِداع. فنجمنا هذا، يضع الضحية في سياق من يُحاكمها بجرم الفقر أو العَوَز ويُنزل عليها عقاب التشهير. يحمل سياطه في يدِه وهاتفه المحمول في اليَد الأُخرى، ويضرِب كل موضع مُمكن، حتّى تلك المواضِع غير المسموح لهُ الوصول إليها، فقط من أجل حصد الفُرجة، بالتالي، تراكم الأرباح.
ولأنه يُقدم المغريات للمسحوقين، الضعفاء، من يحتاجون إلى سندٍ، مساعدةٍ وإعالةٍ فصار يصنّف كفاعل خير. يُقدِّم سلّة غذائية، أو مبلغ زهيد من المال، أو عشاء في مطعم، مُقابل تعريته إنسان آخر، وبعد أن ينتهي من مهمته يرميه عارياً، بلا رداء يتستر به في الشارع. على هذا النحو، يستثمر في الأزمة، يولد من بؤرتها، آخذاً بنصيحة ميكافيللي «الغاية تبرر الوسيلة» مقوّلباً المآسي، بغلافٍ إنساني كاذب، إلى عمل درامي يثير التعارك يدرّ له الشهرة والمال.
فاضحٌ يرشق الضعفاء بالحجارة فيما بَيته من زُجاج. يستعين نجم «تيك توك» بمُشاهديه ليكونوا بمثابة مُعاقبين، متواطئين معه في الجريمة، لكي يُصبح مُتصفّح عالم «تيك توك»، بكلّ بلادة، مُطلِق أحكام ومشاركٌ طوعي مع الجزار في اقترافه الجريمة. ذاع في ما سبق نمط ترفيهي وكان يٌسمى تلفزيون الواقع. كان يوفّر التسلية للمشاهدين عبر نقله المباشر لأشخاصٍ ارتضوا أن يمثلوا دور قد اختاروه بملء إرادتهم. كنا نشاهدهم ونتابعهم بتشويقٍ وحماسة، من دون أن نخاف عليهم أو أن نفكر في مصيرهم. كنا نعلم أنه مثلما تفصلنا عنهم شاشة التلفاز، فالكاميرا التي نراهم منها هي أيضاً فاصلٌ، تفصل حقيقتهم عن أدوارهم، مهما كان أداؤهم لأدوارهم حقيقياً. الآن، وقد تحقق عام ١٩٨٤ على مدار أورويل، بات للواقع تلفزيونه الخاص. تلفزيوناً رسمّياً أيضاً، ينطق بحقيقة الأشياء، بالصوت والصورة المجردتين، من دون أي روتوش أو مؤثرات، ويحلّ بدل المذيع المقدّم، صانع محتوى الـ«تيك توك»، ليصوّر المآسي، فيتسلّق على ظهر من سحقهم الواقع ويبني نجوميته. وما زلت لا أفهم، ما اللذة في مشاهدة هذا العرض وما هو المسلّي في ذلك؟ متى نطفئ الشاشة وندير أعيننا عن الذين ينظرون إلينا؟ وما زلت لا أفهم، ماذا حدث حتى صار «الأخ الأكبر» نجماً؟