يستيقظ الصباح ويتركنا نياماً، وفي الخارج أقدام تزحف، كل العالم أقدام. قدمان، أربعة، ستة وثمانية على طابور خُبز، ستّة عشر قدماً على باب صيدليّة تبيع دواءً مفقوداً. أحذية، شعبٌ من الأحذية يدوس على المكابح بغضب تحت أشعّة الشمس الحارقة. في المنزل أقدامٌ عارية، عاطلة، تزحفُ إلى الخارج مع آلافٍ مثلها، تقفُ بلا حركة أو فعل، لا تستطيع تمييزها عن حجارة الرصيف لفرط ما تبدو ميتة.في «مقهى العاطلين» أقدام من مختلف الأعمار والأحجام، ومشادة كلاميّة بين هذا وذاك على خلفية اتهام (الزعيم) الفُلاني بالفساد. بعد أن صرخ واحدُ منهم: «استمرّ في الدفاع عنه لنرى إلى أيّ مدى يُمكننا أن ننحدر» أغلق الباب بقوّة وخرج. كلّ حياتنا تتمحور حول الوجوه إيّاها، الأحداث إيّاها، المصطلحات نفسها، والأزمات ذاتها، الأحوال ممجوجة تجتر نفسها والذي يفكر بطبيعة شكلها يُصاب بالدوار.

(رسم: ميليسا شلهوب)

كان يصرُخ من الراديو، صار يصرُخ من التلفاز بخطابه المُكرر في مناسبةٍ كهذه، قُرب موعد الانتخابات. «منذ أكثر من أربعين عاماً تحوّل طابور الخُبز إلى متراسٍ من أكياس الرمل. الذي كان ينتظر دوره مُجرّباً ضروباً مُختلفة من أشكال الذلّ والهوان، حمل سلاحاً معلناً بدء حربٍ دامت لخمسة عشر سنة، هل تتوقّع حدوث حرب؟» قال موجّهاً الحديث إليّ فلم أعرف بماذا أُجيب. ردّ أحدهم بالنيابة عنّي: «دعهم يُحاولون لنفنيهم عن بكرة أبيهم هذه المرة». الحرب؟ ما سرّ استعداد أناسٍ بمثل شقاء هؤلاء الدائم لها؟ قد أفهم رغبات الساسة وعقليّة الجنرالات، لكن بالنسبة إلينا، ماذا تعني لنا الحرب غير ضحكات تؤرق ليالي عائلاتٍ هانئة وخوف دائم يتربّص شبابيك الأطفال. بعدَها علَت أصوات تحليلاتٍ سياسيّة واقتصاديّة، محورها ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية وإمكانية تشكيل حكومة، مكرّرة، مؤلّفة من وجوهٍ عرفناها وحفظناها عن ظهر قلب. وكخفافيش فزِعة راحت ذكريات العجائز تنتقلُ من طاولةٍ إلى أخرى، مصوّرين يوتوبيا النموذج اللبناني لحقبات سابقة بصورٍ مختلفة. «آه على أيّامنا، عندما كنّا شباباً نعيش برغدٍ وبحبوحة، كان اللبناني نموذجاً ناجحاً يُضرب بهِ المثل في كل دول العالم» قال أحدهم قبل أن يردف الآخر: «وما لنا نعود إلى ماضٍ بعيد كهذا؟ منذ سنتين فقط كان العيشُ في هذا البلد طيّباً هنيئاً، أنظُر إلى أين وصلنا بظرف بضعة سنوات».
عرضوا على التلفاز مقتطفاً من مسرحيّة لزياد الرحباني أسكتت همهمات الحاضرين: «لا زراعة في ولا صناعة في، ولا في مواد أولية، ما فيها شي هالبلد يا ثريا»، فزمجر الحضور بضحكٍ مُجلجل كأنّهم جمهور في مسرح. «صدقت، ما فيها شي هالبلد» قُلت. يا لخيبتنا، المقطع من مسرحيّة عُرضت لأوّل مرّة عام 1978؛ عن أيّ ذاكرةٍ جماعية كانوا يتحدّثون إذاً؟ أين ما ذهبت في لبنان، ترى حنيناً إلى الماضي. الجميع مُتّفق على العودة إلى الماضي كأن خراب هذه الأيّام لا وجود له. فتّش في الصور، في الصُحف، في التقارير الإخبارية، في ذاكرة الذين ينشدون الانتقام من الأوغاد، لن تجد سوى مظاهر مُختلفة للمعاناة تتكرر كل جيل، في حرب قتلت الآلاف وشرّدت آلاف آخرين، وأيادي الضالعين فيها باتت اليوم تسنّ القوانين.
كما قال كارل ماركس سابقاً: «التاريخ يُعيد نفسه مرّتين، مرّة على شكل مأساة، ومرّة على شكل مهزلة» ولأن «آفة حارتنا النسيان» وصناعة التاريخ تأتي على أيدي بني البشر، يبدو أن التاريخ لا يُعيد نفسه بل يُكرّر الإنسان مهزلته، في مراتٍ عديدة تكاد لا تحصى، بدون أن يأخذ عبرةٍ، أو خلاصة من أي تكرار سبَق.
وبعيدًا عن نيتشه وعوده الأبدي كفرضيّة فلسفيّة أو كاختبار أخلاقي يُحفّز على تغيير الواقع بأحزانه ومآسيه لعودٍ آخر أكثر صوابيّة وهناء، أو حتى تفسير المؤرّخ الديني والفيلسوف الروماني ميرتشا إلياد لعودٍ أبدي ذو بُعد ميتافيزيقي، بين مُدنّس الحاضر ومُقدّس الماضي، كُثر هُم الفلاسفة والمؤرّخون الذين حاولوا تفكيك حركة التاريخ بغرض فهمه والإجابة عن سؤالٍ ما انفكّ يلحّ علينا: «إلى أين نسير؟». فإذا كان التاريخ يحملُ دروساً، فغالباً هي تلك الموجودة هناك، حيثُ التكرار الذي يصل إلى حدّ التشابه البارز.
وفي هذا السياق يعود إلى بالي وأستذكر ظاهرة رائجة في وسطنا، وهي أقرب ما تكون إلى متلازمة أو فلنقُل عدوى، فأنت كلما برحت مكانك سمعت أحدهم يقول: «مر معي هذا المشهد» أو «رأينا هذا المشهد من قبل». وأحياناً يدخل المراد قوله حيز الصراحة فينكشف القول ويصرّح قائله: «كأنه Déjà vu». وال«Déjà vu» هي ظاهرة تعرّف بأنها «وهم سبق الرؤية»، أي تجربة تضفي على النفس شعوراً غريباً، حيث ذهب بعضُ المفسّرين في تفسيرها بأنها نتيجة معلومات قد تعلّمناها سابقاً لكننا نسيناها، وعندما نعود ونسترجعها، يُخيّل لنا بأننا نعيش الموقف مرتين. وعلى هذه الحالة، ولأننا نرى الوجوه نفسها ونسمع الخطب ذاتها، ونعلم البدايات التي هي، أيضاً، نفسها، فلماذا لا نحصي عدد المرات التي سلبت حقوقنا من هؤلاء الأوغاد؟ وكم مرّة غرق بلعابه، هذا الذي يتحدث، على عدسة الكاميرا من أجل خطابه المُكرر؟
سنقع فريسة فصولٍ جديدة من المهزلة اللبنانية وقد لا نتوقف عن إنتاجها طالما أسبابها لم تنتفِ. سبق لجدّي أن تأفّف من وضع البلاد المُذري عندما كان شاباً من عمري. والدي كذلك وقع فريسة أزمة اقتصادية أغرقت الوطن بصولاتٍ وجولاتٍ من الطوابير والاشتباكات المُسلّحة. ها أنا ذا أنتظر دوري اليوم في الطابور، على بُعد ثلاثة رؤوس من شباك الصيدلاني، سألتزم الصمت إلى أن ترتاع الفزّاعة من ظلّ طائرٍ اصطاد قطّة في حقل صبّار، حتى يعاني الديك من الأرق وتنجذب النحلة إلى كومة نفايات على جانب الطريق بينما تمتصّ ذبابة رحيق وردة، عندما تصبح طوابير الذُلّ في كلّ مكان من المحرّمات، وشبابٌ مثلنا يجرّون أيامهم خلفهم بتثاقل بلا طريقٍ ولا هدف، في موقع القيادة. حيث هناك ما يدهِش، حين يتوقف عودنا الأبديّ. ها هو شعبُ الأحذية يستولي على تفكيري من جديد، ممزّقة، جديدة، نسائيّة، رجاليّة، بعضها يذهب ويأتي خلال دقائق، وآخرون خلال ساعات، الثابت الوحيد أن شعب الأحذية مُلتزمٌ بحركة الكون الدائرية، بحركة الزمن، كلّ الأشياء تدور، كلٌ يعود إلى تموضعه، كلّ الأحذية سواء.